الفَصْلُ الرَّابِع، الأخْلاق، التَّصَوُّرات، والأيَّام الأخيرة

 

الفَصْلُ الرَّابِعُ

الأخْلاق، وَالَّتصًوُّرات، والأيَّام الأخيرة

 

في مُقَدّمَةِ هذا الكِتاب، ذَكَرْتُ أنَّهُ قبل عشر سنوات، كانت وجهات نَظَرِي حول الحَياة ساذجة فيما يُخُصُّ الصَّداقة والحُبّ. فبَرَغْم الإعْتِقاد السَّائد في الدَّاهِشِيَّة أنَّ الصَّداقَة والحُب نادِرا الوجود في شكلهما الحَقيقيّ على كوكب الأرض، إلَّا أنَّي بِطَريقة أو بِأُخْرى رَفَضْتُّ أن آتي إلى هذا الإسْتِنْتاج، إلى أن تَسَنَّت لي فُرْصَة خوض التَّجْرِبة الإنْسانِيَّة ثُمَّ أن أَتَحَقَّق مِنْها. في القصيدة النَّثْرِيَّة التي كَتَبْتُها:

(هل مُمْكن أن أكون مُرافِقُكَ، سألْتُ أوَّل شخص وَقَعَتْ عيناي عليه.

نَظَر إليّ نظرةً مُبْهَمة، لَمْ يُجِبْ، ثُمَّ واصَل رِحْلَتهُ.

لم أَكُن اعْرِف لِماذا.

كَرَّرتُ السُّؤال نَفْسهُ على كُلّ رجل وامرأة واجهْتُها.

الأكْثَرَيَّة تَبِعَت خطواته، وعدد قليل قَبِلوا عَرْضي.

كَرِفْقَة كان لَدينا فُرْصَة التَّعَرُّف على الآخَر.

كَرِفقة ساعدنا بعْضنا بعضاً عند اشْتداد وعُورة وخُطورة الطَّريق.

كَرِفْقَةٍ وَجَدْنا الإرادة لِمُواصَلَةِ السَّير في الطريق نَفْسِهِ.

كنتُ قريباً جِدَّاً من إحداهُنَّ، وأصْبَحَتْ لي حبيبة.

كَسِبْنا بِضعةَ أصْدقاءٍ عندما كنا في الطريق، وخسِرنا غيرهم كثيرين، لأنهم كانوا قد وصلوا إلى وِجْهَتِهِم.)

 

بعْد مرورِ عَقْدٍ من خِداع الذَات، وَجَدْتُّ من المُناسِب إجْراء تَصْحيحاتٍ لِلقِسْمَيْن الآنِفِ ذكرهما من القصيدة:

“هل ممكن أن أكون مُرافِقُكَ، سألْتُ أوَّل شخص وقعت عيناي عليه.

نَظَر إليّ نظرة بِإبْهامٍ، لَمْ يُجِبْ، ثُمَّ واصَل رِحْلَتهُ.

لم أَكُن اعْرِف لِماذا.

كَرَّرتُ السُّؤال نَفْسهُ على كُلّ رجل وامرأة واجهْتُها.

الكُلّ اتَّبَع خطوات ذاتِهِ، دون قُبول ما قَدَّمْتُهُ له من العَرْض.

وحيداً، تابَعْتُ المَسار.

على مَضَضٍ، وجَدْتُّ الرَّغبة في اتّباع المَسار

لم أَكُن قريباً مِن أي شَخْص

لم أكسَب أي رَفيق أثناء مروري في الطَّريق

 

يُمْكِن للقارِئ أن يَحْتَجَّ بالقول: “إنَّ مُجَرَّد عَدَم تَمَكُّنكَ من إقامة علاقات في الصَّداقة وإيجادكَ/كِ شريكك الخاص في الحياة، لا يَعْني أنَّ غيرك قد فَشِلَ أيْضاً!” وَجوابي لَهُم هو التَّالي، إنَّ تَعْرِيفكَ/كِ للحياة والصَّداقة يخْتَلِف عن تَعْرِيفي. فبالنِّسْبَةِ لِمُعْظَمِ النَّاس، أيَّ شَخْصٍ هو “صَديق” إذا  كان “وِدِّيّ بِما فيه الكِفايَة” وإذا كان يشاركنا مَصالحنا. وطالَما أن هذا الشَّخص يملأ احْتياجنا في الرِّفْقَةِ، فَإن كان يَلْعَب الرِّياضة مَعَنا أو يَضَع ابْتِسامة على وجوهنا ، إذن هو موصوف بالصَّدِيق. هَلْ يُمْكِن لِمِثْلِ هكذا صَداقات الصُّمود في وجهِ الإخْتِبارات القاسِية في الحياة؟ فكم من مَرَّةٍ، ودون عِلْمكَ،  طَعَنكَ في ظَهْرِكَ هؤلاء المَدْعوون أصْدِقاءً؟ وكم من مَرَّة أحَبَّ هؤلاء المَدْعُوُوْنَ أصْدقاءً خيانتك جِنْسيَّاً مع زوجتك ريثما توافيهِم الفُرْصَة؟ إنَّ مُعْظَم هؤلاء المَدْعوون أصْدِقاءً، اليَوم، تَجْمعهُم الإحْتياجات الأنانيَّة المادِيَّة والشَّخصِيَّة.

 

وبالمِثْل، بالنِّسْبَة لِمُعْظَمِ النَّاس، عندما يتجاذَب شخصان مادِيَّاً، مُمْتَلِكان قواسِم مَصْلَحِيَّة مُشْتَرَكَة، يَدّعِي  كل واحِد منهم إذْ ذاك إيجاد (حبيبهِ/ا الحَقيقيّ). فهَل هذا حُبُّ فِعْلاً، أم إنَّها شَهْوَة ورَغْبَة في إيجاد رِفْقَةٍ؟ كم مِن هذه العِلاقات يُمكِن أن تكون سَطْحِيَّة؟ وكم منها مادِيَّةً بَحْتَة؟ وكم منها مَبْنِيّ على أساسِ تَرْتيباتٍ إقْتِصادِيَّة (مادَّيَّة)؟ كم مِن الوقْت سَيَسْتَغْرِق لِكَيْ يُقَرر هو أو هي خَوْضَ غِمار تَجْربة الآخَر جِنسيَّاً؟ والأسْوَأ من ذلك، فإنَّ كثيرين يَقبلون حياة المُثْلِيَّة الجِنْسِيَّة والتَّعَدُّدِيَّة الجِنْسِيَّة   والتَّعدّديَّة (Hetrosexual) على حدٍّ سواء، مُعْتَبِرين إيَّاهما مَشْروعَتان، وكأنَّه باتَ مقْبولاً أن يُحِبَّ الرَّجُلُ رَجُلاً والمَرْأة امْرأة جِنْسِيَّاً بِشَكل عَلَنِيّ تحت شِعار “الحبّ الحَقيقيّ” .

 

بالرَّغْمِ مِن خطورَةِ التَّعْميم، فَإنَّي مع الفِكرة القائِلَة بِأنَّ الحُبّ الحَقيقيّ نادِر الوجود بل مُنْقَرِض. وِفْقاً لِوجْهَة نَظَرِ تَعْرِيفي عن الصَّداقة والحُبّ الحَقيقيّ، فَهُما واحِدُ في كُل شيء ولا عِلاقة لَهُما البَتَّة بالجِنْس والأُمور المادِيَّة. الصَّداقَة هي انْدِماج النُّفوس من خِلال تبادُلٍ للسيَّالات الرُّوحِيَّة، حيث لا يُمكن لِنَفْسٍ أن تَرْغب في شيء لِنَفْسِها بانْفِصالٍ عن الأُخْرى. إنَّها الوِئامُ التَّام، ولا يُمْكِن أَن توجَد على الأرْض دون شيءٍ فيهِ كَمال.

 

ويَنْطَبِقُ الشيء نَفْسَهُ على السَّعادة. تَعْتَقِد مُعْظَم النَّاس أنَّ هدفنا من الحَياة هو تَحْقيق السَّعادة. لكن ما هي السَّعادَة؟ كيف تُعَرِّف النَّاس السَّعادة؟ عِند أغْلَب النَّاس، السَّعادة هي حالة ذِهْنِيَّة تأتي نتيجَة التَّعَرُّضِ إلى لَذَةٍ جَسَدِيَّة، سواء أكان ذلك جِنْساً، قِماراً، رِياضَةً، قيادة سيارة فاخِرةً أو قارِباً، أو عَيْشاً في مَنْزِلٍ جَميلٍ، أو جَمْعاً للمال، أو ذَهاباً في رِحْلَةٍ، أو تَسَلُّقاً لِجَبَلٍ، أو اسْتِلْقاءً على شاطِئ، أو تَرْبِيَةً لِلأطْفال. إنَّ تَعْرِيفي للسَّعادَةِ هو أَنَّها تَعْني عدم وجود الألَم، أكانَ جَسَدَيَّاً أم مَعْنَوِيَّاً. وبِما أنَّ هذا الأمر مُسْتَحيلٌ، فإنَّ السَّعادة لا يُمْكِن أن توجَد على الأرض في وجهها الأنْقى. السَّعادَة غير موجودة في كُلّ ما يَرْتَبِط بالمَلَذَات الجَسَدِيَّة بل هيَ مُجَرَّد الوَهْم.

 

وبما أننا نَقْتَرِبُ من نهاية الألْفيَّة الميلادِيَّة الثَّانِية، نَجِدُ الإنسانيَّة مأْخوذَةً بِهاجِسِ مَلَذَّاتِ هذا العالَم الجَسَدِيَّة إلى حَدّ أن الماديَّة صارَت إلهةً لِكثيرين. وَنَتِيجَةً لِذلِكَ، تَغَيَّرَت أَخلاقِيَّة كثير من النَّاس. أنت بِحاجة إلى المال للحصُول على المُتَع الجَسِديَّة، وإذا لم يكُن لَديْكَ مالاً فَسَتَعْمَل مِثلَ الرُّوبوت للحُصولِ عَلَيْهِ، وقد يقودكَ الأمر من أجلِ ذلكَ إلى السَّرِقة، أو الغِش، أو بيع المُخَدّرات، أو القَتْل. قُمْ بِزيارة المدن الكبيرة في العالَم وانْظُر بِنَفسِكَ. لا يكاد يَمُرُّ يوم هناك دونَ حدوث أَعْمالِ عُنْفٍ كبيرة. تَتَعَرَّض مدارِسنا وأَطفالنا إلى المُخَدّرات وتُجَّارِها. لا يكاد يكون هناك فيلم في المَسارِح دون أن يَحْتَوِي بِوضوح على كلمات نابِيَةٍ ومناظر عُرْيٍ كامِل ومشاهِد جِنْسِيَة. لَقَد بات الأَمر مُنْتَظَراً، فَقد بات الأمر مُخَيّباً إذا حال دون حُصولِ النَّاس على تِلك الأُمور. يَتِمّ اعْتِبار كُل مَن حافَظَ على عُذْرِيَّتِهِ بَعْد تَعَدّيه الثَّامِنة عَشر من عُمْرِهِ شاذَّاً. لقد قَرَأتُ أنَّهُ قُبَيْلَ إنْهِيار الإتّحادِ السُّوفياتّي، قد تَوَرَّطت ما نِسْبَتهُ أربع من خَمس تلميذات مدارِس في إقامة علاقة جِنسِيَّة مُقابِلَ مال.

 

إنَّ الموسيقى التي يسْمعها النَّاس عَبْرَ موجات الأثير، في الحانات، والحَفَلات الموسيقِيَّة، تتَضَمَّن كَلِمات جِنْسِيَّة صَريحة، أو كلمات مُسِيئةٍ للمُسْتَمِع. إن في الإسْتِماع إلى موسيقاها لَتَعْذيب للأُذن والعَقْل. وفي كثير من الأحيان تبدو لي كأنَّها آتية من عوالم سُفْلِيَّة. إذا كان أيَّاً من سادَة الموسيقى كَبيتهوفن او موزارت أحْياءً وتَسَنَّى لهُم سماع الموسيقى التي تُعْزَف اليوم، لانْتَابتْهُم نوبة قَلْبِيَّة دون شَك. حَتَّى أُولئكَ الذين يَدَّعون الإنْتِماء إلى عالَمِ الموسيقى الكلاسيكِيَّة؛ أنَّهُم يَسْتَمِعُونَ إلى مُلَحِّنينَ مِنَ القَرْنِ العِشْرِين فَشِلوا في مُحاكاة أولئك السَّادَة، وبالتَّالي أَنْتَجوا أعْمالاً موسيقيَّة فيها التَّنافُر المُزْعِج للأسْماع بالإضافَةِ إلى خُلوِّها من المُحْتَوَى العاطِفِيّ. لا يخْتلِف عالَمُ الفنون البَصَرِيَّة عن ذلك. إنَّ المَدْعُوِّين بالفنَّانّين الحَديثين الذين يُنْتِجون أعْمالاً تَجْريدِيَّة إنَّما يخْدَعون أنْفُسَهُم والآخَرين. إنَّ “خَرْبَشاتِهِم” لا تَحْمِل أيّ مَعْنى وهِي قبيحَة. النَّحَّاتون المُعاصِرون ليسوا أَفْضَل حالاً. فالبَعْض منهُم غير مَرْغوب فيهم البَتَّة.

 

الرِّجال يَرْتَدونَ الأقْراط، هاجِس المَرْأة هو مُسْتَحْضراتُ التَّجْميل، العُطور، سُمْرَةُ البَشَرة، والملابِس. لقد صار الرّجال والنّساء مَهْووسينَ بأُمور اللياقَةِ البَدَنِيَّة، والرّياضة، وكُل ما يَمْنَح مُتْعَةً جَسَدِيَّة. لقد أصبحت الحانات الأماكِنَ النَّموذَجِيَّة وَمَحَط التِقاءٍ نَموذَجِيّ للرَّجُل والمَرْأة. السُّؤال الذي يُطْرَح هُنا هو، هل هذه علامةٌ تَنُمُّ عن تَقَدُّمٍ أو تراجُعٍ في الحَضارَة؟ لَم يَشهد أي قرن من القُرون إراقَةَ دِماءٍ كما في القَرْن العِشرين. لقد عِشنا حَرْبَيْن عالَمِيَّتَيْن، ونِزاعاتٍ إقْليمِيَّةٍ أُخْرى.

 

في بَعْضِ الأحْيان، يكون نِظام العَدالة في جَميعِ أنحاءِ العالَم مُنْحازاً للغايَة، حيث تُؤَثّر عليه الجماعات السّياسِيَّة والدّينِيَّة بِشِدَّة، وفي مَرَّاتٍ أُخْرى يَعْتَريه الفساد التَّام. بعْض القرارات المُتَّخَذة من قِبَل الأُمم المُتّحِدة هي مُنْحازة؛ فالنِّظام ذو المَعايير المُزْدَوَجَة الذي يَتِم تطبيقهُ بانْتِظام يُسَيْطِر عليه اللاعبون الأكبر (أيْ الدُّوَل الصّناعِيَّة الكُبْرى). فإلى مَتى سُتكابِد الإنسانِيَّة البَقاء تحْت ظِلِّ هذا التَّدَنّي في القِيَم والأخْلاقِ الفاضِلة؟

 

الكُتُب المُقَدَّسة تَتَحَدَّث عن يوم الدَّينونة أو يوم القيامة وتَصِف العلامات التي تُوَضِّح مَجيءَ ذلك اليوم. إنَّ يوم القيامَة سَيُنْهي دورة الحياة الحالِيَّة ويَبْدأ دورة حَياتِيَّة أُخْرى؛ لكن، ليس من الضَّرورة أن تَبْدَأ الدَّورة الحياتِيَّة مُباشَرة بعد دَوْرَةِ الحَياة الحالِيَّة. قَدْ يسْتَغْرِق أمْرَ بدْءِ دَوْرةِ حياة جَديدة آلافاً بَلْ ملاييناً من السِّنين.

 

هذا ما سَيكون عَليه الحال إذا ما شُنَّت حَرب نَوويَّة واسِعَة النّطاق، مُنْشِئةً إشعاعات قاتِلة من شأنها إطفاء الحياة على الأرْض لِمُدَّة طَويلة. وَقَدْ تنشأ دورة حياتيَّة جديدة فور نهاية هذه الدَّورة الحَياتِيَّة. وذلك تماماً كما بدأت الدَّوْرة الحياتِيَّة الحالِيَّة مع نوح وعائِلَتهِ بَعْدَ الطُّوفان مع عدد قَليل من النَّاس والحيوانات النَّاجِية التي أَعادتْ إسْكان الأرْض، فَمِن المُمْكِنِ أن يَجْري انْتقال مُماثِل في المُسْتَقْبَل، لكن هذا الأمر غير مُرَجَّح.

وكَما وَرَدَ في كِتابِ العَهْدِ الجَديد:

26 وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا فِي أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ

27 كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُزَوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَجَاءَ الطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ

28 كَذلِكَ أَيْضًا كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ: كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ

29 وَلكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ، أَمْطَرَ نَارًا وَكِبْرِيتًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ ( لوقا 17: 26- 29)

 

مكتوبٌ في القُرآن، ” وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا۟ ۙ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُوا۟ لِيُؤْمِنُوا۟ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ 13

ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰٓئِفَ فِى ٱلْأَرْضِ مِنۢ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ

(سورة يونُس 13- 14)

 

” يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ 104 وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ  105 (سورة الأنبِياء 104-105)

 

مكتوب في العَهْدِ القَديم،

 

1 هوَذَا الرَّبُّ يُخْلِي الأَرْضَ وَيُفْرِغُهَا وَيَقْلِبُ وَجْهَهَا وَيُبَدِّدُ سُكَّانَهَا.
2 وَكَمَا يَكُونُ الشَّعْبُ هكَذَا الْكَاهِنُ. كَمَا الْعَبْدُ هكَذَا سَيِّدُهُ. كَمَا الأَمَةُ هكَذَا سَيِّدَتُهَا. كَمَا الشَّارِي هكَذَا الْبَائِعُ. كَمَا الْمُقْرِضُ هكَذَا الْمُقْتَرِضُ. وَكَمَا الدَّائِنُ هكَذَا الْمَدْيُونُ.
3 تُفْرَغُ الأَرْضُ إِفْرَاغًا وَتُنْهَبُ نَهْبًا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلَّمَ بِهذَا الْقَوْلِ.
4 نَاحَتْ ذَبُلَتِ الأَرْضُ. حَزِنَتْ ذَبُلَتِ الْمَسْكُونَةُ. حَزِنَ مُرْتَفِعُو شَعْبِ الأَرْضِ.
5 وَالأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا الشَّرَائِعَ، غَيَّرُوا الْفَرِيضَةَ، نَكَثُوا الْعَهْدَ الأَبَدِيَّ (أشعياء 24- 1-5)

 

لقد مَرَّتِ الأرْض بِمئاتٍ من الدَّورات الحَياتِيَّة. أثناء هَذِه الدَّورات، كان سُكَّان الأرْض يَصِلون إلى درجة مُعَيَّنة من الشَّر والإثم، وذلك بِرَغْمِ تَحْذيرات الأنبياء في تلك العُهود، الأمر الذي جعل الخالِق يَرى أَنَّهُ من الضَّرورِي تَدْمير الحَضارة والبَدْء من جَديد. كل العلامات تقودني للإيمان بأن دورة الحَياة الحالِيَّة على وشك الإنْتِهاء. كل نبوءات الكُتُب المُقَدَّسة آخِذة في التَّحَقُّق. ” وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ” (مرقس 12:13)”

 

7 لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ.
8 وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ.
9 حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيق وَيَقْتُلُونَكُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي.
10 وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
11 وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ.
12 وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ.
13 وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ.
14 وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى.” (مَتَّى 24: 7-14)

 

لقد أصْبَحَ العالَم مادّيَّاً جِدَّاً. تَفْعَل النَّاس أيّ شيء مُقابِل المال. لَقَد أَصْبَحَنا في تشويشٍ جِدَّاً في هذا الوجود. بات الأصْدقاء الحَقيقيين مُنْعَدِمِين. لقد صار تَعَلُّق الأصْدِقاء ببعْضِهِم البَعْض اليوم مَبْنِيَّاً على الإحْتياجات المادِيَّة والشَّخْصِيَّة، كذلك الحب الحقيقيّ نادر بِنَفْسِ النِّسْبة، كما تَعْتَمِد مُعْظَم الزِّيجات على الإحتياجات المادِيَّة والتَّرْتيبات الإقْتِصادِيَّة. الشَّر على الأرْض آخِذٌ في ازْدِياد، الأخلاق آخِذة في التَّرَدّي، وأصْبَحَ الإنْحِراف الجِنْسِيّ والمَجُون مَقْبولاً في الحياة بالنِّسْبَةِ للأغْلَبِيَّة، وهو يَتَجاوَز بِكَثير فُجور أهل سدوم وعامورة. بدأت بعض الكنائس بإجْراء مراسيم زواج لِمُثْلِيي الجنس سواء أكانوا ذكوراً أم إناث.

”   1 وَلكِنِ اعْلَمْ هذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ،
2 لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ،
3 بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ،
4 خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ للهِ،
5 لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هؤُلاَءِ.
6 فَإِنَّهُ مِنْ هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ، وَيَسْبُونَ نُسَيَّاتٍ مُحَمَّلاَتٍ خَطَايَا، مُنْسَاقَاتٍ بِشَهَوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
7 يَتَعَلَّمْنَ فِي كُلِّ حِينٍ، وَلاَ يَسْتَطِعْنَ أَنْ يُقْبِلْنَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَبَدًا.” (2 تيموثاوس 3: 1- 7)

 

أَمراضٌ مِثل السَّرطان والإيدز آخذة في الإنتِشار، البِيئة تُدَمّرها الأمْطار الحِمْضِيَّة، والتَّلوُّث، وانتهاكات أُخْرى من الجِنْسِ البَشَرِيّ، ثُمَّ تَدَهْور طَبَقة الأوزون. عندما يَتَضاعف عدد سُكَّان الأرْض في السّنين القليلة المُقْبِلَة، فسوف تُصْبِحُ هذه المشاكِل أكثر وضوحاً. لقد أصبح التَّدمير الذَاتي من أكثر الأُمور رَجاحَةً.

 

نحنُ في فَترة خطيرة جِدَّاً، إنَّهُ وقت يمكن لمُتَطَرِّف فيه أن يمتلك سلاحاً نوويَّاً، أو أن يُصْبح زعيم أُمَّةٍ مُتَمَكّنة من تطوير أسلحة دمارٍ شامِلٍ. ” وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ” (مَتَّى 24-29)

 

10 ولكن سيأتي كلص في الليل، يوم الرب، الذي فيه تزول السماوات بضجيج، وتَنْحَلّ العَناصِر محترقة، وتَحْتَرِق الأرض والمصنوعات التي فيها (2 بطرس 3: 10)

 

وفقاً للعالِم كارل ساغان، يَحْدُثُ في أَعْقابِ نُشوب حَرْبٍ نوويَّة، أَنَّ الغُبار والدُّخان النَّاتِج من الإنفِجارات يَبْقى في الجَو لِفَتْرَةٍ طويلَةٍ مانِعاً أَشِعَّة الشَّمْس من الوصول إلى سَطْحِ الكوكَب. هذا سَيَمْنَع سَطح الأرْض من امْتِصاصِ الحَرارة، الأمر الذي سَيُؤَدّي إلى هُطولِ ما يُعْرَف بظاهِرة “الشِّتاء النُّوَوِيّ.” الأمر الذي يُؤَدّي إلى انْخِفاضٍ في دَرَجاتِ الحَرارة، مِمَّا يجعل الأرض أقَلَّ مُلاءمَةٍ للحياة. فإذا قُدّر لِبَعْض النَّاس النَّجاة على الفَوْر من التَّدمير والإشعاعات الواسِعة النّطاق النَّاتِجة عن الكارِثة النُّوَوِيَّة فَقَدْ لا تَتِمّ لهم النَّجاة من جَرَّاء الشّتاء النُّووي.

 

في العام 1945 نَشَرَ الدكتور داهِش كتاباً بِعنوان مُذَكّرات دينار، حيث تقوم عُمْلة نَقْدِيَّة وهي الدّينار بِروايَةِ قِصَّةِ حياتِها، وذلك ابتِداءً مِنْ لَحْظَةِ اسْتِخراجها من مَنْجَمِ المَعادِن. يروي الكتاب كيف تَحَوَّلَ المَعْدن إلى عُمْلة نَقْدِيَّة، وكيف أَّنَّها انْتَقَلَت مِن مالِكٍ إلى آخَر على مَدى عُقودٍ، وما كان النَّاس يَفْعَلونَهُ للحُصول عَليها. يَتَحَدَّث الكِتاب أَيضاً عن الدَّمار غير المُتَوَقَّع والمُخيف للأرْض. ووِفْقاً للكِتاب، أَنَّهُ في حين أَّنّ كِلاً من الولايات المُتَّحِدَةِ الأمْرِيكِيَّةِ وروسيا يقْبَعان تحت ظِلّ سلامٍ زائِفٍ؛ سَتقوم دولة غير مُشْتَبهٍ بِها بِإطْلاق أسْلِحَةٍ نوَوِيَّةٍ وبالتَّالي تَدْمير الأرْض. فَهل فِعْلاً سَيَحْدُث هذا أم لا؟

 

قد يبدو هذا الأمر بَعيد المَنالِ بالنِّسْبَةِ لكَ، لكن بَعْض الظُّروف التي مِن شأنها أن تُقود في طَّريق هذه الحادِثة ما زالت موجودة. لقد انْهارَ الإتّحاد السُّوفياتي، كما أن روسيا والولايات المُتَّحِدة الأمريكِيَّة يُخَفّضان من تَرَسانتهما النُّوَوِيَّة. الإنفاق على قُوَّة الدّفاع من قِبَلِ القُوى العُظْمى قد انْخَفَضَ، وبالتَّالي باتَتْ حِيازَة أسْلِحة نُوَوِيَّة من قِبَل دولٍ أُخرى أَكثَر سُهولَة.

 

قَد يَتَساءَل البَعْض عن سَبب  أنْ لا مَفَرَّ مِنَ التَّدْمير. تَذَكَّر أنَّ هذه الحياة ليسَت سِوى فَصْلاً صَغيراً مِن وجودنا، وأَنَّهُ قد تَمَّ مَنْحنا فُرَصَاً تِلْوَ أُخْرى. لكن، إذا لم نُغَيّر من سُلوكنا وتَصَرُّفاتنا فقد يأتي ذلك الوقت الذي نَجْنِي فيه نتائجَ عَكْسِيَّة. إذا كان التَّدَنِّي الحالي للأخْلاق قد أعطى إشارَة ما، فهذا يَعْني أنَّ أغلب النّاس قد تَدَنَّتْ أَخلاقهم اليوم. ثَمَّة شيء آخر يجب أخْذهُ بِعَيْن الإعْتِبار وهو أنَّه مع وجود الإساءة المُسْتَمِرَّة للطَّبيعة، فَسَيُصْبِح أمر اسْتمرار دعْم الأرض للحياة صَعْباً دون اللجوء إلى مصاعِب شَديدة. سواء أَكان ذلك إزاء إنتشار الأمراض السَّريع، أو أمراض الجِهاز التَّنَفُّسِيّ والأمراض النَّاجِمة عن تَلَوّث الهواء والمياة والطَّعام. قَد يكون دمار الأرض رحمة من الله تعالى بكل ما للكلمة من معنى.