الفصل الثَّاني، العقائد الفَلْسَفِيَّة الدَّاهِشِيَّة

 

الفصل 2

العَقائد الفَلْسَفيَّة الدَّاهِشيَّة

 

هل يمكن للعِلم أن يأتي بِأجوبة عَلى الأسْئلَة الآتية: هل هُناك خالِق؟ ما هو الغَرَض من خَلْقِنا؟ هل هُناكَ حَقيقة مُطْلَقَة؟ هل كُنَّا مَوجودين قبل أن نولَد؟ هل سَنُوجَد بعد مَوتِنا؟ هل تَصَرُّفاتنا مُحَدَّدة سَلَفاً، أم هي خاضِعة لِإرادَة حُرَّة؟ من نحن؟ إذا كان بالإمكان اسْتِعْمال الحقائق العِلْمِيَّة للإجابَة، فلا يُمْكِن أن يكون هناكَ أمْراً اسمُهُ فَلْسَفة. ولأن العِلم غير قادرٍ على معالَجة هكذا قَضايا فَقَد ظَهَرَت الفلسفة كتَخَصُّص. ما إن يتِمّ حَل قَضِيَّة ما عِلْميَّاً، تتوَقَّف إذ ذاك عن أن تكون قَضِيَّة فَلْسَفيَّة.

تقومُ الفلاسِفة بِدراسَةِ ما لا يَتَمَكَّن العِلْم من مُعالَجَتِهِ من قَضايا، ثُمَّ يقومون بِصِياغَةِ نَظَريَّاتٍ تَعْمَدُ إلى حَلّ كُلّ قَضِيَّة.

هذه الآراءُ الفَلْسَفِيَّة مُتَنَوّعة جِدَّاً. إنَّ كُلَّ فيلَسوفٌ يرى الأمور على وجْهٍ مُعَيَّن، وغالِباً ما تكون مَحْكومة بعقيدته في الحياة.

 

خُذ على سبيل المِثال مَسْألة الإجهاض. يُمْكِن للعِلْم تماماً شَرْحَ عَمَلِيَّة “الحَمْل بِطِفْل” وذلك من لَحْظة إخْصابِ البُويضة وصولاً إلى وَقْتِ الوِلادة. فإذا ما قَرَّرَت امرأة إجراء الإجْهاض أثناء الحَمْل في أيّ وَقْت، فيسْتَطيع العِلم أن يُقَدّم الجواب عن أَفْضَل السُّبُلِ لِإجْرائه، أكان مِن خلال اسْتِخدام الأدْوِيَّة أم من خِلال إجْراء عَمَلِيَّة جِراحيَّة. تبْدأ المُشْكِلة عِنْدَما يتِم السُّؤال عن الأمْر الأخْلاقِي للإجهاض. هل الإجهاض كَقَتْلِ إنسان؟ إنَّ دُعاةَ حُقوق المَرْأة في الإجْهاض لا يَعْتَقِدون ذلك. يُؤمن أكْثَرَهُم أنَّ الجَنِين ليس إنْساناً، وبأن حياة الإنْسان تبدأ عند الوِلادة. وقالوا أنَّهُ كُلَّ ما قرَّرَت امرأة إجهاض حَمْلها يجب أن تقوم بِذلك لأن جسدها وحده هو المُتأثّر. إلَّا أن مُعارِضُو الإجهاض يقولون عكْسَ ذلك، بقَولِهِم أَنّ حياة الإنسان تَبْدأ في لَحْظَة الحَمْل (وهذا عِنْدما يَتِمّ تخصيب البويضة). إنَّ إجهاض طِفْل أثناء الحَمْل هو كَقتلِ إنسان. لا يُمْكِن للعِلْم أبَداً تحديد ما إذا كانت الحياة تبْدأ عند الحَمْل أو عند الوِلادة وذلك لِأنَّها (الحياة) مَعْنَوِيَّة. فَما هي الحياة؟ إذَنْ صارَتِ القَضيَّة أخلاقِيَّة، ومَيْداناً للفَلْسَفة. إذا ما كان العِلم قادِراً على الإتيان بِجوابٍ قاطِع، إذن لَتَمَّ حَلّ مسألَة الإجْهاض بِرُمَّتِها بِطريقةٍ أو بِأُخْرى.

 

إنَّ مسألة الإجهاض لَهِي مِثال بَسيط مُقارَنة بِقَضايا الوجود والخَلْق. منذ فجر التَّاريخ، تناوَلت الفلاسِفة هذه القِضايا، كما انَّه تمَّ إيجاد فلسفات اُخْرى كثيرة. يَجِب أن نَسْأل سُؤالين مُتَرابِطَيْنِ: بِما أنَّ جميع هذه الآراءِ الفَلْسَفيَّة ليسَت في اتّفاقٍ مع بَعْضِها البَعْض، هل يعني هذا أنَّهُ يُمْكِن لِواِحدٍ منها أن يكون صَحيحاً؟ إذا كان الأمر صَحيحاً، فكيف يمكِنُنا أن نُحَدّد أيُّهما الصَّحيح؟ إنَّ إجابَةً شافِيةً لِهذه الأسْئلة تَعْني ضِمْناً أن الفلسفة التي وقَع الإختيار عليها تَمَكَّنت من كَشْف وشَرْح كُل ما ينبغي شَرْحهُ في الحياة. و في رأيي، إن فَلسَفة كهذه لا يُمْكِن أن توجَد في إطار الوجود الإنْسانِي. وأسباب ذلك سَتُصْبِح واضِحة في الفُصول التَّالية. تحتوي كُلّ الفلسَفات تقريباً على بَعْضٍ من عَناصِرِ الحقيقة، لكن لا شيء منها يَحْتَوي على الحقيقة الكامِلة. إن محاولة وضع نَظَريَّة دقيقة عن الحقيقة هي كمحاولة تجميع”     قِطَع لُغْز لُعبة الصُّوَر المُقَطَّعة” Jigsaw ، من دون معْرِفة ما يُشْبِه الصُّورة، مع فقدان ثُلْثَيّ القِطَع. إنَّهُ مع وجودِ ثُلْث القِطَعِ بالإستطاعة توقُّع شكل الصَّورة كامِلة. إذا كُنَّا مَحْظوظين، فبإمكاننا تَجْميعَها لِتَشكيل جزء صغير من الصُّورة، لكن لا يُمكن تَوَقُّع الصُّورة كامِلة بأيّ حالٍ من الأحوال. وهكذا هي الحال مع أفْضل الفلْسفات المُتاحَة. مَتى تَمَّ تجميعها، يُمْكِنْ أن تَصْلُحَ في المَكانِ على سَطح “لُعْبَة الصُّوَر المُقَطَّعة”

 

إن المَبَادِئ الإيمانيَّة الدَّاهِشيَّة الفَلْسَفيَّة، ليست بأيَّة حال من الأحوال تَفْسيراً للصُّورة الكامِلة. إنَّها لا تَدَّعي تقديم الإجابة عن سؤالٍ مِثْلَ من هو الله تعالى؟ ما هو الغَرَض من خَلْقِنا؟ لِماذا يُوجَد الشَّر؟ هذه الأسْئلة والعديد منها هي خارِج نِطاق الدَّاهِشيَّة. إلا أنَّ المبادِئ الإيمانيَّة الدَّاهِشيَّة الفَلْسَفيَّة تُقَدّم الإجابة عن أسئلة عديدة لا يُمكن شَرحها بالنَّمَطِ التَّقليديّ. إنها تُوَفّر قِطَعاً إضافيَّة لِإضافَتِها إلى “لُعْبَة الصُّوَرِ المُقَطَّعة” لِنتمكَّن من أن نُصْبِح على مقربة أكثر من الصُّورة الكامِلة. كما تُوَفّر الدَّاهِشيَّة أيضاً معرِفة المكان المُناسِب لِبِضْعَة أجزاء الصُّوَر على سَطح “لُعْبة الأحْجِية” لِكَي لا نَحْتاج إلى تَخْمين مَكانِها.

 

الصُّورة الجُزْئيَّة 1:

الله

 

دعونا نأخُذ كل خُطوَةٍ بِخطوَتِها، وأن نَعْتَبِرَ لِفَترة من الوقت أنَّ وجودنا، كما نفهَمهُ، هو الوجود الحقيقي. السُّؤال الأوَّل الذي يتبادَر إلى الذّهْن هو، كيف جِئنا إلى الوجود؟ هناك وِجهَتا نَظَر معْقودتان حول هذا الموضوع على نِطاقٍ واسِع. الأولى والأكثر شيوعاً هي وجهة نَظَرِ المُؤمِن، والتي تَنُصّ على أنّنَا خُلقْنا من قِبَل قُوَّة خارِقة للطَّبيعة (الله). الثانية هي وجهة نَظَر المُلْحِد التي تتصَدَّى لِفكرة الله، وتَعْزو وجودنا إلى (الحادِث) أوَّلاً، ثُمَّ إلى عَمَلِيَّة تَطَوّرِيَّة.

 

من النَّاحية العِلميَّة، يُمْكننا تَتَبُّع وجود الحياة في مُسْتواها الأكثر بِدائيَّة (أشكال حياة وحيدة الخَليَّة)  أيّ منذ 3.5 بليون سَنَة. وقبل حوالي بليون سَنَة من ذلك، يُعْتَقِد أن الأوضاع على الأرض لم تَكُن مؤاتية للحياة. ووفقاً لِوجْهَةِ نَظِر المُلْحِد، إنَّ تَطَوُّر أشكال الحياة قد جاء تحْديداً على نَحْوِ تفاعُلٍ كيميائِيّ حيث انْضَمَّتِ الجُزَيئات العُضوِيَّة بعضها بِبَعْضٍ فَشَكَّلَتْ أحْماضاً أمينيَّة التي انضَمَّت بِدورها في سَلاسِل طويلة لِتُشَكّل ال “ببتيدات” Peptides. يُمكن للببتيدات تشكيل سلالسِل لِتَأليف بروتينات، والتي بِدورها تتفاعل مع موادٍ أُخْرى لِتشكيل ال “بوروتوبلازم” وهو السَّائل المُرَكَّب الموجود في الخلايا. لكن هذه ليست القِصَّة كُلّها، لِأنَّهُ بِداخِل نواة الخلايا يوجد نوعان مُرَكَّبان من الجزيئات، RNA) ribonucleic acid وdeoxyribonucleic acid (DNA

اللتان تحتويان على كُلّ المعْلومات المُتَعَلّقة بتكاثُر الخلايا. وبكلمات أُخْرى، تحتوي الخَلِيَّة على المُخَطَّطات الهَنْدَسيَّة. إنَّ كُل الأنواع الحَيَّة سواء بَشَريَّة أو حيوانيَّة أو نباتيَّة هي عِبارة عن مجموعةِ لِتِلْكَ الخَلايا.

الأبحاث العِلميَّة، إلى حَدِّ الآن، قد فَشِلَت في إنتاج خَليَّة واحِدة. ويبقى السُّؤال، هل حَدَثَ وجودنا مُصادَفَةً أم بِحُكْمٍ مُسْبَقٍ؟

 

إذا افترضنا أن تكوين الحياة على الأرض كان لا شيء أكثر من تُفاعُلٍ كيميائيّ، إذَن من هو الذي خَلَق العناصِر الأساسيَّة المُسْتَخْدَمة في هذه العَمَليَّة؟ بِحَسَبِ اَحْدَثِ النَّظَريَّات، تكوَّنت الأرض في نفسِ وقت تكوُّن الشَّمس، أي منذ 4.5 بليون سَنة، وذلك عن طريق اصطِدام كُويكِبات من سُحُبِ غُبار من السَّديم الشَّمسيّ. إن نظامنا هو جُزْءٌ من مجَرَّة دَرْبِ التَّبَّانة، حيث أنَّ شمسنا هي نجمة واحِدة من 100 بليون نجمة. (أُنظر الشَّكل 1) وهناك آلاف بل مَلايين المجَرَّات الشبيهة بِمجَرَّتنا التي تُؤَلّف الكون. من أين جاء كُل هذا الكون الواسِع؟ لقد اكتَشَفَ العُلَماء ان المَجَرَّات تَتَحَرَّك بعيداً وخارِجاً عن بعضِها البعض على نَفْسِ النَّسَق. ومن خلال اسْتِقراء حركتها إلى الوَراء، خَلُصَ العُلماء إلى أنَّ كُل المجرَّات نشأت من نَفْسِ النُّقْطَة، منذ 10-20 بليون سنة. تَشَكَّلَت المجرَّات وأصْبَحَت مُنفَصِلَة نتيجة انفِجار من نوعٍ ما. ومن هُنا جاءَت نَظَريَّة الإنْفِجار الكبير. وبعدما هَدَأت الجسيمات الكونيَّة الآتية من جَرَّاء الإنفِجار، تكَثَّفَت لِتُشَكّلَ مُخْتَلَفِ النُّجوم والكواكِب التي تُؤَلّف المَجَرَّات.

milkyway

الرَّسْم التَّوضيحِيّ 1

إنَّ شَمْسنا هي نَجْمٌ في مَجَرَّةِ دَرْبِ التَّبَّانة، التي تحْتَوِي على 100 بليون نجمة. إنَّ مَجَرَّتنا هي واحِدة مِن آلاف المَجَرَّات بَلْ مَلايين المَجَرَّات التي تُشَكِّل الكون. (الصُّورة من وِكالة ناسا الفَضائيَّة)

 

ما الذي دَوَّى في الإنفِجار الكبير؟ لقد طَّوَّرت العُلماء نَموذَجاً لِمحاوَلة تفسير ما الذي انفَجَر وكيف جاءَ إلى حَيّزِ الوجود. يُسَمَّى نموذجهم، نموذَج الكون التَّضخيميّ. وِفْقاً لِهذا النَّموذَج، ودون المُرور في الكثير من الأمور التّقَنيَّة، وبِحسب توقيت “بلانك” أي عند (10-43 ثانية بُعَيْد الإنفِجار الكبير)، يُمْكِن أن تكون الجُسيمات والجسيمات المُضادَّة (الكُتلَة) قد ظَهَرَت من “لا شيء” نتيجة التَّقَلُّبات الكَموميَّة. ولكي يحْدُث هذا ينبغي إثارة حالَة من الفراغ. وفي ظِلّ ظُروفٍ مُعَيَّنة، تَخْضُع الكُتلة المكوَّنة حديثاً إلى “نمو هائل” شبيه بانْفِجار، وهو “الإنْفِجار الكبير”. من أين جاءت حالة الفراغ المُثارَة؟ هذا الفراغ المُثار يكاد يكون “لا شيء.” مهما ذهبت العُلماء بإثبات أن الكون خلَق نَفْسَه، فسيصلون إلى نقطة تقود إلى أنَّ هناك حالة موجودة مُسْبَقاً. حتَّى الملحدون، لا يمكنهم إثبات أن العالَم خَلق نَفْسهُ، ولا حتَّى المُوَحِّدون يستطيعون إثبات عكس ذلك. هذا يقود كثيرين إلى أنَّهُ لا يمكنهم إيجاد أو نَفْي إثبات لوجود الله. ويُشار إلى هذه الظاهِرة باسم  الأغنوستيَّة.

 

لكن انتَظِر ثانيّة. هل يُتَوَقَّع مِنَّا إثبات أو دَحْضَ وجود الله على أساس القوانين الطَّبيعيَّة للكون؟ ماذا لو كان هُناك قُوَّة ما وراء القوانين الطَّبيعة للكون؟ كيف يُمْكِنُنا حَتَّى البدْء في فهم هذه القُوَّة، ناهيكَ عن تَفسير ذلك عِلْميَّاً؟ يعْتَقِد المُلْحِدون عُموماً بأن الكون بِطَبيعَتِهِ مادِيّ بِشَكْلٍ صارِمٍ. وذلك من وجهة نظر  (الأحادِيّة-المادِيّة/ الطّبيعيَّة/ الآليَّة). يزعمون بأن عِبْءَ إثبات وجود الله هو مُلقى على عاتِق المُؤمِن، وبأن المؤمن لا يُمْكنه عَرْضَ دليل على ذلك. أنا أطلُب منهم مجَدَّداً أن يثبِتوا عِلميَّاً  أن الكون خَلَق نفسَهُ من “لا شيء” دون وجود ظُروف موجودة مُسْبَقاً، أيْ دون وجود علاقة الزَّمَكان أو حالة “الفراغ المُثار”. كما أَطْلُبُ منهم أيضاً أن يأخذوا كل مادَّة موجودة في العالَم على أن يخلقوا خليَّة حَيَّة واحِدة منها. في اعْتِقادي، كان غاليلو صائباً تماماً في قولِهِ أنَّ الدّين والعِلم هما حقيقتان يجب أن لا تتعارَضان أَبَداً. واحِدٌ يتناوَل طَبيعَة الله الخارِقة وآخَر يَتَعامَل مع قوانين الطَّبيعة الكونيَّة التي خَلَقَها الله تعالى.

 

إذاً، إذا كان هُناك قوّة خَلَقت الكون ومع ذلك هي أبعَد من القوانين الطَّبيعيَّة لِلكَون فَما الذي نَعْرِفهُ عنها؟ لا شيء في الكُتُب العِلْميَّة التي يمكن البحث فيها يُمكن ان يُعْطينا فِكرة واحِدة. إذا بَحَثْنا في الكُتُبِ الدّينيَّة، فسنجد قليلاً من المعْلومات. بعض الكُتُب المُقَدَّسة تدعو هذه القُوَّة المُوجِدة إله، الله، الرَّب ، يهوة. ما نَتَعَلَّمهُ عن هذه القُوَّة هو أنَّها طاهِرة، مُحِبَّة، راعية، قادِرة على كُل شيء، كُلِيَّة العِلْمِ، كُلَّيَّة الوجود، رحيمة، كريمة، صَبورة، صادِقة، وأشياء أُخرى كثيرة. كما نَتَعَلَم أيضاً أنَّهُ لِهذه القُوَّة المُوجِدة، تُقْتَضَى الطَّاعة والمهابَة المُطلَقَتين. إنَّ الكُتُب المُقَدَّسة مَلْأى  بِوصْف أحداث عِنْدَ انحرافَ الإنسان عن القوانين المنصوص عنها من قِبَلِ الله، فكانت النَّتيجة العِقاب (طوفان نوح  وسَدوم وعامورة) إن ما تُخْتَزَل الأُمور إليه هو الإيمان بِأبَديَّة الله عَزَّ وَجَلّ. إذا كُنَّا قد وُجِدْنا، إذاً الله هو خَلَقَنا. هذا عُنْصُرٌ أَساسيّ في الفَلْسَفَة الدَّاهِشيَّة.

 

إنَّه من السُّوء بِمكان أن نسأل السُّؤال التَّالي: هل أنت موجود؟ ناهيكَ عن طَرْحِ السُّؤال، لِماذا أنت موجود؟ يمكن أن يكون هناك إجابَة صحيحة واحِدة فَقط على السُّؤال الأخير. لكن إذا طُرِحَ هذا السُّؤال على أشخاص مُخْتَلِفين فَسَوفَ يُؤتي بكثير من الإجابات اعْتِماداً على المُعْتَقدات الفَلْسَفيَّة لِكُلّ فَرْدٍ. على الأرْجَح لن تكون هناك ايَّة إجابة صَحيحة. لَقَد ذهَبَت مجموعة من النَّاس تؤمن بالخالِق إلى مُحاوَلَةِ إيجاد جواب عن سُؤال لِماذا خُلِقنا وما ذلك إلَّا لابْتِداع هَرْطَقة. فلنأخُذ على سبيل المِثال إدجار كايسي وأتْباعِهِ. في منشور دُعِيَ “لا يَزال وأَعْلَم”، لِ ماري آن وودوِرد، فَسَوفَ تَجِدَ ما يَلي:

خَلَق الله الإنسان كي يُصْبِح رَفيقاً له. وبالتَّالي خُلِقْنا مُساوِين له، أو مُشارِكِين للمُبْدِع؛ هكذا نحن أيضاً جُزْءاً من هذه القُوَّة الواحِدة.

 

وفي سُؤالٍ طُرِحَ على إدْجار كايسي:

س: المشكِلَة الأولى تَتَعَلَّق بِسَبب الخَلْق. هل يَنْبَغي إيلاء هذا الأمر (الخَلْق) على أنَّهُ رَغْبَةِ الله في تَجْرِبَةِ نَفْسِهِ، رَغْبَةِ الله في رِفْقَةٍ، أو رَغْبَةِ الله في التَّعْبير عن نَفْسِهِ، أو في أيّ طَريقةٍ أُخْرى؟

ج: إنها رَغْبَة الله في رِفْقَةٍ وفي التَّعْبير.

 

كيف وَصَلَ إدجار كايسي وأتباعهُ إلى هذا الإسْتِنتاج؟ حَتَّى أنَّهُم كيف تَمَكَّنوا من أن يبدأوا بِفَهْمِ ما هو الله عليه، ناهيك عن ما هي احْتياجاتِهِ؟

في الحقيقة لا أحد في العالَم يعلم ما هو الهَدَف من خَلْقِ الكون وما هو فيه.  وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ  (سورة الدُّخان 38-39)

خُذ وجهة نَظَر أولئكَ الذين يعتنقون الدّين المَسيحيّ، الذين يؤمنون أن يسوع المسيح هو الله، وَبِأنَّهُ جاء إلينا في هيئة إنسان ليُنْقِذنا بإخْضاعِ نَفْسِهِ للسُّخْرية، الضَّرْب والشَّتائم والصَّلب من كائنات من المُفْتَرَضِ أنَّه قد خَلَقَها! في أيّ مكانٍ في الكتاب المُقَدَّس ادَّعى أنَّهُ هو الله تعالى؟ في الواقِع، ولأولئك الذين هُم على دِراية كبيرة في الكتاب المُقَدَّس، رفَضَ يسوع حَتَّى أن يُدْعى “السيّد الصَّالِح” لأنَّه لم يكن كامِلاً. “لماذا تدعوني صالِحاً؟ ليس أحد صالِحاً إلَّا واحِدٌ وهو الله” (مُرْقُس 18:10)

وإلى جانِب ذلك، إذا كان يسوع المسيح هو الله، فَإلى من كان يُصَلّي قبل وقت قليل من انتِقالِه؟ هل يُصَلّي الله إلى نَفْسِهِ؟ وأيضاً، عندما كان على الصَّليب لماذا قال ” إلهي إلهي لِماذا تَرَكتني” (مَتَّى 46:27) إذا كان يسوع المسيح هو الله فُسُؤالهُ غير منطِقِيّ وسَخيف.

عُنصُرٌ آخر في الرّسالة الدَّاهِشيَّة وهو رَفض أن يسوع المسيح هو الله عَزَّ وجَلّ. وَيُعْتَبَر يَسوع المسيح  كَنَبيٌّ عَظيمٌ. كان يسوع المسيح رسولاً لله لا أكثَر. وبِرغْمِ عَظَمَتِهِ نَزَلَ إلى الأرض لإيصال رِسالة لَنا. إنَّ رسالتهُ عن الحُب والرَّحمة والبِرّ لَمَقبولة دون شروط عند مَنْ يُؤْمِن بِالفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

الصُّورة الجُزْئيَّة 2: الأديان

 

ليس هناك ما هو اكثَر إيلاماً من رُؤيَةِ طَريقَةِ مُمارَسة الأديان اليوم. النَّاس من جميع مناحِي الحياة يتبعون الطّوائف الدّينيَّة معْصوبيّ الأعين. في حين أن غيرهم يتحوَّلون بعيداً عن دينهم إلى الإلحاديَّة وذلك بسبب ما سمعوه من أُمورٍ لا مَعْنى لَها. ولا يزال هناك آخرون يتَحوَّلون بعيداً إلى البِدَع لأنَّها تُوَفّر طريقة عَيْشٍ أُخرى أو تفسيراتٍ بديلة لِتِلْكً التي للدّيانات التَّقليديَّة. إنَّ تشكيل الطَّوائف قد أدَّى إلى حالاتٍ كارِثيَّة كمأساة جيم جونز في غيانا أو ماساة دايفد كورِش في واكو- تكساس. تنقَسِم المسيحيَّة اليوم إلى مِئاتِ الطَّوائف؛ الإسلام واليهوديَّة منقَسِمة أيضاً. كل طائفة منها تتدَّعي أنها على حَقٍّ. كيف يُمْكِنُنا تَحْديد من هو على حَقّ ومَن هو على خَطأ؟ للأَسَف، لقد نَسِيَت النَّاس مَعْنى جوهَر الأديان وهو: البحث عن الحقيقة حول وجودنا وعِلاقتنا مع الله تعالى.

 

ولكن كيف يُمكنكَ البحْث عن الحقيقة إذا كنت قد تَربَّيت على ألَّا تسْأل كاهنكَ أو زعيم دِيانتكَ عن ما يقوله لك؟ إذا كُنْتَ مسيحيَّاً فَاقرأ العهد الجديد وحاوِل أن تُحَلّل ما يقولهُ. إذا كُنْتَ مُسْلِماً فَيُرْجى قِراءة وتحليل القُرآن. إذا كُنت يهوديَّاً فاقرأ وحَلّل العَهْد القديم. إنَّ المُثَقَّف الحقيقيّ لا يأخذ الأشياء كأُمورٍ مَفْروغ منها بَلْ يأخُذ في البَحْث في الموضوع لأطوَل فَتْرة مُمْكِنَةٍ إنْ كان ذلك ضَروريَّاً. بِغَضّ النَّظَر عن أيّ دين تنتَمي إليه أو أي كتاب مُقَدَّس تؤمن فيه، “فإنَّ جوهَر كل الأديان هو واحِد”. إن هذا لَمُكَوِّنٌ آخَر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

  • الإيمان بِخالِقٍ واحِدٍ بِغَضّ النَّظَر عن دعوتكَ إيَّاها بالقوَّة الموجِدة، الرَّب، الله، أو أيّ اسْمٍ آخَر
  • السُّلوك البَشَرِيّ اللائق والصَّالِح
  • الإيمان في الحياة بعد الموت

 

بِما أنَّ جوهَر كُل الأديان مُمَاثِلٌ، هل هو حَقَّاً مُهم كيف تَعْبُد خالقكَ؟ هل هو حَقَّاً مُهِم أي كنيسة، مَسْجِد، أو مَعْبَد يهوديّ تَحْضُر؟ أي طَعام تأكُل، أو إذا كنت تُوَلّي نَفْسَك شِطر مَكَّة عندما تُصَلّي؟ في بَعْضِ النَّواحي يُهُمّ الأمْرُ وفي البَعْض الآخَر لا. إنَّهُ لَمِنَ المُهِمّ جِدَّاً أن نَفْصِل جوهَر الدّين عن التَّطبيق الإجْتماعيّ لهُ. يأتي الدّين إلى حَيّز الوجود في وقْتٍ مُعَيَّن وفي مكان مُعَيّن وإلى مجموعةٍ مُعَيَّنة من النَّاس. إنَّهُ يَأتي في الشَكل الذي هو بِحَسَبِ اسْتِعْدادِهم لِقُبول هذا الدّين، و مَدَى فَهْمِهِم لهُ. وعلى سبيل المِثال جاء الإسلام لأكثَر النَّاس وَثَنيَّة في شِبْهِ الجَزيرَة العَرَبيَّة في شَكْلٍ مُناسِبٍ لِنَمَطِ حياتِهِم ومدارِكهِم.

 

إنَّهُ مع تَطَوّر الدّين، لَيُرافِق جوهرهُ مجموعة من مُمَارَسات يَضَعُها مُؤَسّسها ومن ثُمَّ أتباعه في وقتٍ لاحِق. وهكذا فإنَّ الأعياد الدّينيَّة تأتي إلى حَيّز الوجود لإحْياءِ أحْداثٍ هامَّة، وتنشأ الصَّلاة في شَكْلٍ لا يُمْكِن بِسهولة نسيانهُ، ثُمَّ تَنشأ قواعِد مُحَدَّدَة لِتُنَظّمَ الزَّواج، الموت، الصّحَّة، وغيرها من جوانِبِ الحياة. لا يزال اليهود اليوم يتْبَعون الكثير من نَفْسِ العادات الإجْتماعِيَّة التي كانت تُمارَسُ في عهدِ موسى؛ كذلك المسيحيَّون منذ عهد يسوع المسيح؛ والإسلام في أيَّام محمَّد.

 

حَتَّى أنَّ أَحْدَث هذه الدّيانات الثَّلاثة هو مُنذُ حوالي 1400 سَنة. ألَم يَحِنِ الوقت لِتَطَلُّعِ النَّاس إلى العادات التَّقليديَّة وسُؤال ما إذا كان يمكن تطبيقها في الحياة في القَرْن العِشرين؟ هل يُعْقَل التَّحْريض على ثَوْرَةٍ دينيَّة لإجْبار أُناس القَرْنِ العِشرين على الإلتِزام الصَّارِم بِقَواعِد وضِعَت لأوَّلِ مَرَّة على شَعْبِ القَرْنِ السَّادِس؟ هل ظُهور الأُصولِيَّة الإسْلاميَّة، وسيادة الأبيض المسيحيّ، والأُصوليَّة اليهوديَّة، هي اتّجاه إيجابيّ في هذا العَصْر؟

 

تنشأ بعض الأديان لِاسْتِكمال أديان قَديمة. المسيحيَّة هي واحِدة مِنها. إن قول: “العين بالعَين والسّن بالسّن.” (لاويين20:24) يُسْتَبْدَل في المسيحيَّة من اليهوديَّة بِ “من ضَرَبَكَ على خَدّكَ الأيمَن فَحَوّل لهُ الآخَر أيضاً” (متَّى 39:5) . في القَرن الأوَّل، كان اليهود على اسْتِعْداد لِلتَّخَلُّص من القواعِد والأنظِمة الإجْتِماعيَّة لَديهِم التي ورثوها منذ بِضعَة آلاف من السّنين والإنْتِقال إلى ما هو أكثر نُضْجاً. تَحَدَّى يَسوع المسيح هذه القَواعِد الإجْتِماعِيَّة دون مناقَضة الوصايا العَشْر.

 

إنَّ مُخالَفة يسوع المسيح لِتَقاليد يوم السَّبت يَتَضّح في عِدَّة مَقاطِع من الكِتاب المُقَدَّس. ” السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ ” (مُرْقُسْ 27:2)

 

فأجاب وقال لهم حَسَناً تنبَّأَ أشعياء عنكم أنتُم المُرائين كما هو مكتوب. هذا الشَّعْب يُكْرمني بِشَفَتَيْه وأمَّا قَلْبهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنّي بعيداً. وباطِلاً يَعْبُدونني وهُم يُعَلّمون تَعاليمَ هي وصايا النَّاس. لِأنَّكُم تَرَكْتُم وصِيَّة الله وتتمَسَّكون بِتَقليد النَّاس. غَسْل الأباريق والكٌؤوس وأُموراً كثيرة مِثل هذه تَفْعَلون.” (مُرْقُس 7: 6-8)

 

” لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (مَتَّى 5: 17)

 

ومن ناحِية أُخْرى جاءَ الإسلام إلى الأُمَم الوَثَنيَّة، ولم يَرْفُض اليهوديَّة أو المسيحيَّة في أيّ حالٍ من الأحْوال . وفي الحقيقة لم يَتِم إكراه اليهود والمَسيحيين على أن يَتَحَوَّلوا عن دينِهم إبَّان المَدّ الإسلاميّ.

 

“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا  وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” (سورة البَقَرة 62)

الإسلام يُفَسِّر كذلك بَعْض الحوادِث المَذكورة في الكِتاب المُقَدَّس مِثل صَلْبِ يسوع المسيح.

 

ويَرى بَعض المُسْلِمين أنَّه بِما أن الإسلام قد جاء آخِراً، وبِما انَّه رسالة من قُوَّة إلهيَّة إذن فشرائع الإسلام تُبْطِل شرائع جميع الأديان الأُخْرى، وأن القُرآن الكريم هو  الكِتاب السَّماويّ الوَحيد الذي يجب أن يُقْرَأ ويُقْبَل، وبأن كل شيء آخر هو لاغٍ وباطِل. قد يُقَدّم البَعْض مِثالاً على ذلك قانوناً مَرَّرتهُ حكومة ما فَألْغَى ما سَبَقَهُ. إنَّهُ لَغير عادلٍ حَقَّاً مُقارنة شرائع كتاب سماوِيّ بِقوانين وضَعها بَشَر. يَسُنُّ الإنسان قوانيناً تَعْكِسُ ما يُنْظَرُ إليهِ أنَّه لِصالِح المُجْتَمَع؛ كما أنَّهُ لا تَقْتَضي هذه القوانين بأن تكون أخْلاقيَّة أو مقبولة من الله تعالى. وعلى سبيل المِثال، إذا سَنَّت الولايات المُتَّحِدة قانوناً يجعَل زواج المُثْليين قانونيَّاً، فهذا لا يَعْني أن قانوناً كهذا يرمي نحْوَ ما هو أفْضَل. إذا ألغى الإنسان قانوناً وَشَرَّع آخر، إنَّهُ لأنَّ مَنطِقَ الإنسان يَطْلُب ذلك، وذلك شيء غير مُهِمٍّ. ولَكنَّ الأمر ليس كذلك عنْدَ مَجيء الكتُب المُقَدَّسة. تأتي الأنبياء لِتُكمّل عَمل من سَبقها من أنبياء، وليقوموا بتوضيح أكثر لِما كان قد تَمَّ توضيحهُ سابِقاً، لكن لا لِنَقْضِ من سَبَقَهُم. لا أرى في الكتُبِ المُقَدَّسة سِوى أنَّها الأَساسات التي يَجِب أن تكون فينا لِلحصول على بِناء مُتَماسِك.

 

بِما أَنَّ جوهَر الأديان هو واحِد، فإنَّه على كل مَن يَرْغَب في توسيع مدارِكهِ حول الأديان أن لا يَتَرَدَّدَ في دِرَاسةِ الكُتُبِ السَّماويَّة، على أن يُجَرّدها (في قِراءَتِهِ) من الجوانِب الإجْتِماعيَّة ثُمَّ مقارَنتها دون تَحَيُّزٍ.

إن قُبول كافَّة أنبياء الله (يسوع المسيح، موسى، محَمَّد، بوذا، داهش، وغيرهِم) و دعاة السَّلام والإصْلاح الإجْتماعِيّ (غاندي، مارْتِن لوثَر، وغيرهِم) لَهِيَ مُكَوّن آخر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة. عندما أُسْأل عن دِيانَتي، أُجيب أنا يهودِيّ، مسيحيّ، مُسْلِم، وأتْبَعُ عقائد إيمانيَّة أُخرى، كُلّها في واحِدة، لأنني داهِشيّ. إنّهُ بِمُجَرّدِ فَهْم اَنّ جوهر الدّين هو وَحْده الذي يَهُمّ، فإن مَوقِفكَ اتّجاه الأديان الأُخْرى سَيَتَغيَّر. عندما يستوعِب الفَرْد ذلك فَسَيَكون بإمكانه العَمَل على تحطيم الحواجِز الدّينيَّة التي تَقود الأُمم إلى الحُروب، أو لِتَضميد جُروحٍ حَرْبٍ أهْلِيَّة كانت قد غَذَتها الكَراهية الدّينيَّة. ” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” (سورة الشُّورة 13)

 

يَرى البَعض أنَّهُ من المُسْتَحيل أن تَكون مسيحيَّاً، يهوديَّاً، مسلِماً، وتابِعاً لِمَذاهِب أُخْرى في وقتٍ واحِدٍ. كيف يمكن لأحدهم أن يكون ثلاثة في آن؛ جمهوريّ، ديمقراطِي ومُسْتَقِل؟ إنَّ جوابي على هذه الحُجَّة هو أنَّهُ لا ينبغي تمرير التَّحليل السّياسيّ، كَجُمهورِيّ يقابلُهُ ديمقراطِيّ يُقابِلُهُ مُسْتَقِلّ، على أنَّها حُجَّة مَنْطِقيَّة. إن هذا الأمر مقبول في السياسَة والحياة البَشَريَّة. أمَّا كَحقيقة روحيَّة فالأمر ليس ذلك. هناك حقيقة واحِدة فقط. قد تَتَّخِذ أشكالاً مُخْتَلِفة، لكنَّها واحِدة. طالما تعْتَقِد أن كتابك المُقَدّس ودينك هو الحقيقة الوحيدة، فَسَيَبْقى مِنَ الصَّعْب أَن تفهم كيف أن تؤمن بِجَميع الأَديان. ليس حَتَّى تَفْتَح عَقْلَك وتُفَكّر بِعَقلانيَّة ودون تَحَيُّزٍ لِكَي تُدْرِك هذه الحالة الذّهْنيَّة. ولكن كيف يُمْكِنكَ ان تُؤمِن بِكُل الدّيانات مع العِلم أَن هُناكَ اخْتِلافات كبيرة بينَها. يوجد اخْتلافات كُبرى بين ما يدعو إليْهِ كُل دين و بَين ما يُمارَس. على سبيل المِثال، في الكِتاب المُقَدَّس، لا يَدّعي يسوع المسيح الأُلوهِيَّة، لكن، المسيحيين في جميع أنحاء العالَم يؤمنون أنَّهُ كذلك. يرْفُض القُرآن أُلوهيَّة يسوع المسيح وينظُر إليه باعْتِبارِهِ نَبيَّاً عَظيماً. وبالمِثْل يَعْتَقِد المَسيحيُّون أنَّ يسوع المسيح قَد صُلِب، لكن القُرآن يقول أنَّه لم يُصْلَبْ. كيف يُمْكِن التَّوفيق في هذه المُشْكِلَة؟ فيما يَتَعَلَّق بالصَّلْب، كُلّ من الكِتاب المُقَدّس والقرآن صَحيحان. النَّاس في ذلك الوقت رأوا يسوع المسيح على الصَّليب، وَشاهدوه يَموت، لكن الأمر الذي لم يَعْرِفُوه هو أنه،  بِبَساطَة، كان تَجَلّياً مِن قِبَل كيان روحِيّ. كان شَبيهاً روحيَّاً لا يسوع المسيح النَّبِيّ البَشَرِيّ الذي كان عَلَى الصَّليب. يسوع الإنسان لَم يُصْلَب لأنه أَعادَ طَلَبَ ذلك. ”  ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ” (مَتَّى 39:26) والقُرْآن على صَواب في قَولِهِ، ”  وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ” (سورَة النّساء 157)

 

هكذا كما تَرون، المسيحيُّون والمُسْلِمون يُنادون بِنَفْسِ الشَّيء؛ لكن ما يُمارَس اليوم  يَضَعهُم على خِلاف. إنَّ مُجَرَّد رِفْض اليهود الإقْرار بِيسوع المسيح لا يجعَل ديانتهم باطِلَة. كُل مسيحيّ ومُسْلم يؤمِن بِكتاب العَهْد القَديم، لكنَّهُم لا يَقْبَلون إلا بما يحتويه كتابهم “كالحقيقة دون سواها.” ليس لَدَيّ أية مُشكِلة في قُبول اليهوديَّة، وذلك بالرَّغم من عدم إيمان اليهود بأنَّ المسيح قد جاء. وبالمِثْل، أعْتَقِدُ أن مُحَمَّد هو نَبِيّ، خِلافاً لِمُعْظَمِ المَسيحيين الذين يَرْفُضون هذه الفِكْرة، وهذا لا يجعَل المسيحيَّة على خَطأ. وبالمِثْل، أعْتَقِد أَن داهِش هو نَبِيّ وذلك يُخالِف قَولَ بَعْض اليهود، والمسيحيين، والمُسْلِمين، ولكن، أيْ (ما يقولونَهُ) لا يَجْعَل اليهوديَّة، المسيحيَّة، والإسلام على خطأ.

 

يَجِبُ الأخذ بِعَيْنِ الإعْتِبار أَنَّ دِقَّة ما وَرَد في العهد القديم والجديد يَسْتَلْزِمُ السُّؤال. ليس من يُنْكِر أنَّ عديداً من الأحْداث لم تَتِمّ، لكن أُجْرِيَت إضافات على بَعض تفاصيلِها، وتَمَّ حَذْف أُخْرى. إنّ الأجْزاء المختَلِفة للعَهْدِ الجديد لم يتم جَمْعها في مُجَلّدٍ واحِدٍ إلَّا بَعْدَ مَجيء يسوع المسيح بِمِئَات  السّنين، وبالمِثْل، يُمكن القول أن العَهْدَ القديم هو عِبارَة عن مَخْطوطات قَديمة كُتِبَت في أَوقات مُخْتَلِفة  ومِن قِبَلِ أشخاصٍ مُخْتَلِفين. يُمكِن أو قد لا يُمكن أنَّ الكُتَّاب كانوا الأنبياء أَنْفُسهم، وقد تكون الكِتابات الأصْلِيَّة دُوّنَت بَعْدَ وَفاةِ الأنْبياء.

 

على الأرْجَح تَمَّ تَغْيير ما جاءَ في الرّسالات الأصْلِيَّة من خِلال التَّلاوات المُتَكَررة لها قَبل تدوينها. وِبما أنَّهُ تمَّ تجميع الكِتابات، فهناك الكثير من المواد الهامَّة ضاعَت، ويَجوز أَنَّهُ تَمَّت إضافَة مواد غير ضَروريَّة. ومِثْلَ أي كتاب تمَّت تَرْجَمَتهُ مِن لُغَتِهِ الأصْلَيَّة (باسْتِثناءِ القُرآن الكريم) فقد يكون قد أُدْخَلت مزيداً من الأخْطاء. قد يكون لِكَلِماتٍ مُخْتارة غير صَحيحة تأثيراً كبيراً على المَعْنى.

 

إنَّ تفْسير الكُتُب المُقَدَّسة لَهُوَ بَعْد مَسْأَلَة أُخْرى يجب أن تُؤخَذ بِعين الإعْتِبار. إنَّ تفسير النَّصّ نَفْسَهُ مِنْ قِبَل مختَلَف النَّاس وفي قُرون مخْتَلِفَة، بعيد واحِدها عن الآخَر، سَيُشَكّلُ اختِلافاً كبيراً في الأمر. وبِالمِثْل، سيكون التَّفسير مُخْتَلِفاً اخْتِلافاً كبيراً إذا ما تَمَّ تفْسيرَ النَّص نَفْسَهُ في وقتٍ واحِدٍ مِن قِبَل أُناس مُخْتَلِفين يأْتون من خَلْفَيَّات ثقافيَّة أَو تَعْليميَّة مُخْتَلِفة. إنَّ الإقْتِباسات القُرْآنيَّة الكثيرة المسْتَخدمة في هذا الكِتاب هي ترجمة عن أصْلِ النَّصّ العَرَبِيّ مِن قِبَلِ يوسُف عَلِيّ (1934 و 1938). في مُدَوّناتهٍ حولَ تَفْسيرِ القُرْآن الكَريم يقول:

كثيراً ما تَنْشأ لَدينا صعوبات للتَّفسير لأسْباب مُخْتَلِفة، سأَذْكُر القليل منها فَقَط:

 

  1. لقد اكْتَسَبَت كَلِماتٍ عَرَبيَّة مَعانٍ تَخْتَلِف عن تِلْكَ التي كانت مفْهومَةً للرَّسولِ (صَلَّى الله عليه وسَلَّم) وصَحَابَته. كُلّ اللغات الحَيَّة تَخْضَع لِمِثْلِ هذه التَّحَوُّلات…
  2. وبالرَّغم من كِتابات المُعُلَّقين التي جاءَت في وَقتٍ مُبَكّر، إلا أنَّ اللغة العَربيَّة قد تطَوَّرَت إلى أبْعَد من ذلك بِكَثير، لِدَرَجَة أنَّ المُعَلّقين اللاحِقين قاموا بالتَّخَلّي عن تفسيرات كُتِبَت في وقتٍ سابِق، دون وجود أسْباب كافية…
  3. إنَّ لِجَذْرِ كُلّ مُفْرَدَةٍ في الِلُّغة العَربيَّة الفُصْحى مَعْنى شامِل بحيث يَصعُب تَفْسير كل كَلِمة فيها بِلُغَة تَحْليليَّة حَديثة، وهذا على الرَّغْم من وَضَعِ الكلمة التي جاءَت في النَّص الأصْلي في مواضِعها في النَّص (الحديث التَّحْليليّ)… في كثير من الأحيان تكون الكلمة في اللغة العَربيَّة شعاعاً كامِلاً لِضوء؛ فعندما يَنْظُر المُحَلّل إليها من خلال (منشور) التَّحْليل اللغويّ الحَديث، فَسَيفْقِِد قَدْرا عظيماً من معناها حاصِراً اهْتِمامَهُ بِلونٍ واحِدٍ مُعَيَّن…
  4. ثَمَّة خطأ آخر يطْرَحُ نَفْسَهُ في بَعْضِ الأحيان عن بَعْض المسائل، فالقُرآن الكريم في مُفْرداتِهِ الغَنيَّة يُمَيّزُ بين أَشياء وأفْكار مُعَيَّنَةٍ من خلال كلمات خاصَّة، لا يوجد لها سوى كَلِمة عامَّة في اللغَة الإنجليزيَّة…
  5. … إنَّ خبرة الإنسان في أفضَلِ درجاتها لَمَحْدودة. ففي الفَرد عَيْنِه تنمو وتنْخَفِض وفقاً لِكَفاءَتِهِ ووسْعِ خِبْرَتِهِ. فإذا أخذنا البَشَرِيَّةَ مُجْتَمِعَةً فسَيَكْبر التَّبايُن من عَصْرٍ إلى عَصْرٍ ومِن ناسٍ إلى ناسٍ.

 

يَخْتَلِف كُلّ نَبيّ عن الآخَر في القواعِد والأنظِمة الإجْتِماعيَّة التي يُرسيها وذلك لأن كُل دِينٍ يأتي إلى مجموعة مُعَيَّنة من النَّاس في وقتٍ ومَكانٍ مُعَيَّنَيْنِ. تَتَلَقَّى مُعْظَم الأنبياء أوامِرَ إلهِيَّة صارِمَة بِشأن ما هو مَقبول وما هو غير مَقبول كأقْصى حَدٍّ، إلَّا أنَّ بعض القواعِد والأنْظِمة الإجْتِماعِيَّة قد وضِعَت موضِع تَنْفيذٍ بعد وفاة النَّبِيّ. ليس هُناك شَك في ذِهْني أَنَّ الإسلام جاء مُناسِباً لِشَعْب شِبه الجزيرَةِ العَربيَّة منذ 1400 سَنة. لكنه من الخَطأ افْتِراض أَنَّه جاء ليُناسِب العالَم بأسْره إلى يوم القيامَة. الله تعالى وحدهُ يَعْلَم ما هو أفْضَل لِكُلّ شَعْبٍ وعَصْرٍ. لا يُمكِن لأيّ دين تقليديّ أَن يكون هو الحقيقة الوَحيدة أو الحَلّ الوحيد لِهذه الحَقبة الزَّمَنيَّة ولِلمُسْتَقْبَل في آنٍ واحِدٍ.

 

من المُؤْلِم جِدَّاً أن نَسْمَع عن حَرْبٍ أو صِراعٍ إقْليمِيّ تُغَذّيه الكَراهِيَة الدّينيَّة. لقد أعْطانا التَاريخ أَمْثِلة كثيرة لِهَذِهِ الصّراعات. الحُروب الصَّليبيَّة المَسيحيَّة  من القرن الحادي عَشَر إلى الثَّالِث عَشَر التي حاوَلَت تَحْريرَ الأراضي المُقَدَّسة من أيْدي المُسْلِمين. هناكَ حروب عديدة كهذه في العَصْرِ الحَديث: الحُروب بين العَرَب وإسْرائيل. الحُروب الأهْلِيَّة في قُبْرُص، لبنان، إيرلَندا، البُوسْنة؛ الصّراعات في الهِنْد بين السّيخ والهِندوس، المسلمين والهِندوس. هذه الصّراعات هي في الواقِع إقْتِصاديَّة أو إقْليمِيَّة، مع تَصَنُّعٍ دِينِيّ. ما الذي يدعو بَعْضَ أعضاء دين واحِد إلى النّظَر باحْتِقار إلى نُظرائهِم من دين آخَر؟ ما الذي يُؤَكّد لهؤلاء أنّهُم على يَقينٍ مُطْلَق وأنَّ الآخَرين على خَطَأ؟ ما هو الدَّور الذي تَقوم به القيادات الدّينيَّة لِتَأجيج سُلوكٍ كَهذا؟ إذا كُنْتَ مُسافِراً بالسَّيَّارَة من جَدَّة إلى الطَّائف في المملَكة العَربيَّة السُّعوديَّة، سَتَصِل إلى نُقْطَةٍ حيث يتِمّ إغلاق الطَّريق على الجَميع باسْتِثناء المُسْلِمين لأنَّهُ يَمُرُّ عَبْرَ مَكَّة المُكَرَّمَة. على النَّاس من الأديانِ الأُخْرى أن تَنْعَطِفَ في مَسارٍ طويلٍ يُسَمَّى عادَةً طَريق الكُفَّار. هل في الحَقيقة أنَّ مُسْلِمِيّ المملَكة العَربيَّة السُّعوديَّة يَتْبَعون روحَ رِسالة محمَّد (صَلَّى الله عليه وَسَلَّم)؟ ما الذي يجعل أولئكَ المُسْلِمين يَظنُّون أنَّهم أنقياء وأن الآخَرين نَجِسون؟

 

لقد حان الوقت لإزالة هكذا حواجِز. خِلافاً للحواجِز السياسيَّة، كَجِدارِ بِرلين مَثَلاً، الذي اسْتَمَر لعُقودٍ قَليلة، فإنَّ حواجِز الكَراهِية الدّينيَّة والتَّمييز العُنْصُرِي اسْتَمَرَّت لِعِدَّةِ قُرون. كيف يُمْكن أنَّ الآباء والأمَّهات يُرَبُّون أبناءهُم على الإحْتِقار وحَتَّى كَراهية من هُم من أديان أُخْرى؟ كيف يمكن التَّراجُع عن هكذا كَراهية؟ هل يُمكن لأشخاص من لُبنان والبوسْنَة وغيرِها من الأماكِن تضميد جراحِهِم بين لَيْلَةٍ وَضُحاها؟ هل الإبنُ قادِر على مُسامَحَةِ المجموعة التي قَتَلَت والدهُ؟ لقد انتهَت الحَرْب الأهْلِيَّة الأمْريكيَّة مُنذُ أكْثَر من قَرْن، لكن الكَراهِيَة العُنْصُرِيَّة والتَّمْييز لا يَزالا قائمَيْن في قُلوبِ بَعْضِ الأمْريكيين. إنَّه لِلْحُروبِ الأهليَّة الدّينيَّة نَفْسِ العواقِب.

 

إنَّ العُقَلاء الحَقيقيُّون، بدلاً من أن اعْتِماد الكراهِية التي تُعَزّز الحُروب الدّينِيَّة، يحاولون أوَّلاً فَهْمِ ما يُعَلّمهُ إيَّاهُ دينهُم وبعد ذلك ما يُعَلّمُه الدّين المُواجِه له. لكن القُوَّة المُثْلَى للتَّغيير وَوَضْعِ حَدّ للكَراهِية لا يأْتِيان إلَّا مِنْ داخِلِ قُلوبِ النَّاسِ.

 

صورَة جُزْئيَّة 3: دُورُ العِبادةِ

 

مُنْذُ ألْفَيّ سَنَة دخل يسوع المسيح الهيكل المُقَدَّس في القُدْس حيث تَمَلَّكهُ الغَضَب لدى دُخوله: ” وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الحَمام وقالَ لَهُمْ: مَكْتُوبٌ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ” (مَتَّى 21: 12-13) ومن المُناسِب أيضاً مُراجَعَة فِكْر يسوع المسيح اتّجاهَ رجال الثَّوب (المَظاهِر الخارِجِيَّة) في وقْتِهِ:

 

  • حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ
  • قَائِلاً: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ
  • فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ.
  • فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ
  • وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ
  • وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ
  • وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!
  • وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ.
  • وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
  • وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ.
  • وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ.
  • فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ.
  • «لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ.
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْناً لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفاً!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ!
  • أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟
  • وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ!
  • أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟
  • فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ
  • وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ
  • وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللَّهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ.
  • أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً!
  • أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّاً.
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً وَهِيَ مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ.
  • هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَاراً وَلَكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ
  • وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ!
  • فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ.
  • فَامْلَأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ.
  • أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟

(مَتَّى 23 : 1-33)

 

جاءَ في القُرآن الكَريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم) (سورة التَّوبة 34)

 

 

في نَواحٍ كثيرة، لا يوجد فرق كبير بين رِجال الثَّوب في يومنا هذا وبين أمثالهم وَقْتَ السيّد المَسيح. وفي حالات كثيرة، تفوَّقوا عليِهِم في النّفاق والسُّلوكِ الأنانِيّ. هذا لا يَعْني أن جميع رِجال الثَّوب هُم كذلك. فمُنْذُ البِداية، إنَّ أغْلَبَ رِجال الدّين قَدْ دُفِعوا ليكونوا على ما هُم عليه من خِلال دافِع التَّحَلّي بالأخْلاقِ العاليَة والحِسّ لِمُساعَدَة الإنْسانِيَّة والتَّقَرُّب من الله في نَفْسِ الوَقت. لكن، وفي حالاتٍ كثيرة، وبعد أن بَرُد حماسهُم الأوَّل، هيمن عليهم ضَعْف النَّفْس والجَسَدِ. إنَّ الصّراع بين الخير والشَّر في داخلهم الآن هو أقوى من أي وَقْتٍ مَضى. أوَّلاً، أصْبَح للعامَّة إنطباعاً عنهم وبالتَّالي لا يُمكنهم إطلاقُ العَنانِ لِرَغباتهم بشَكلٍ عَلَنِيّ. ثانياً، إنَّ أغلبهم قد أقْسَمُوا “قَسَمَ عُزوبةٍ” لايُسْتَهانُ بِهِ، ومِن هُنا تَبْدَأ المُفارَقَة.

 

نحن جميعاً بَشَر، وكُلُّنا بِحاجَةٍ إلى أُمور مادِيَّة وغير مادّيَة. لَكنَّهُ من غير اللائق التَّبْشير بالعِفَّة في حين تَتِمُّ مُمَارَسَة عِلاقات حُبّ غير مَشْروعة سِرَّاً. إنَّهُ كالكَذِب تَماماً. هل يُمكن للمُجْتَمَع أَن يتسامَح مع فِكرة أن يكون لديه ضابِط شُرطة أدَّى قَسَم تَطْبيقِ القانون لَكَنَّهُ قام بِقُبول رَشاوى سامِحاً بانْتِهاكِ القانون؟ لِماذا يجب أن يكون رِجل الدّين مُخْتَلِفاً؟ إنَّهُ لَأمْرٌ مُحْزِنٌ جِدَّاً أن نَقْرَأ في الصُّحُف عن الفضائح التي تَنْطَوِي عليها رِجال الدّين؟ كيف يُمْكِن للمُجْتَمَع أن يَتَفاعَل حِيال التَّحُرّش الجِنْسِيّ والإغْتِصاب من قِبَلِ رِجال الدّين؟ كيف يُمكِن للوالدين بعد قِراءَةِ هكذا فَضائح أن يَثِقوا بأنَّ أَبناءهم سيكونون في مأمَنٍ تامّ مع رِجال الدّين ؟ ماذا عَن سوء التَّصُرُّف المالي عِنْدَ بَعْضِهِم؟ لقد صُدِمْتُ لَدى سَماعي في برنامَجِ تحقيق تِلفزيونِيّ  أَنَّ 35-50 بالمِئة من القَساوِسَة الكاثوليك هُم مُثْلِيُّو جِنس، وأنَّهُ من المُسْتَبْعَد أن تكون أعداد مُمَاثِلَة موجودة في طوائفَ أُخْرَى. لَسْتُ هُنا لأدِينهُم، ثُمَّ لا يُمْكنني قِراءة أَفكارِهم لكنَّي فقَدْتُ إيماني بِهِم. إنَّهُم ليسوا على صَواب في زَعْمِهِم تَمثيل الكَنائس والمَساجِد والمَعابِد اليَهوديَّة وما تُسَمَّى “بِدُورِ العِبادَةِ”، ثُمَّ أنَّ كثير منهم تتَوَلَّى إدارَتهُم أناس مُخادِعون. هذا (الفَهْم) هو عُنْصُرٌ آخَرَ مِنَ الفَلْسَفَةِ الدَّاهِشيَّة.

 

منذ أكْثَرِ مِنْ عامٍ بِقَليلٍ زُرْتُ كاتِدْرائيَّة القديس بولُس في لَندَن. وعِنْدَ بلوغي المَدْخَلِ الرَّئيسِيّ ذَهَبْتُ إلى الباب الذي على اليسار، فَقِيلَ لي من قِبَل كاهِنَيْن بأنَّهُ علَيّ اسْتِعْمالِ الباب الذي على اليمين. ذَهبْتُ إلى الباب الذي على اليمين وفَتَحْتُهُ، فَبَهَرَني منظَر ثلاثة كَهَنَةٍ واقِفين وَراءَ آلاتِ مُحاسَبةٍ. دَفَعْتُ رُسوم الدُّخول ودَخَلْتُ القاعَةَ الرَّئيسيَّة. عِنْدَ هذه النُّقْطَة صُدِمْتُ لِرُؤيَتِي اثنين او ثلاثَةِ محلات تِجارية للهَدايَة التّذْكاريَّة. سألْتُ نَفْسي: ” كيف يمكن لِهذا المَشْهَد أن يكون مُخْتَلِفاً عمَّا واجَهَهُ يسوع عِنْدَ دُخولِه الهيكل العَظيم؟ وبالمُصادَفة، في طَريقي للخُروج، رأيت نفْسَ الكاهِنين اللذين قالا لي أن أسْتِخدم الباب الذي على اليَمين، وكانا الآن يقومان بمُطارَدَةِ فتاة لأنَّها بِطَريقَةٍ أو بِأُخْرَى دَخَلت عَبْر الباب الخَطأ (أي ليس الباب ذا آلاتِ التَّسْجِيل النَّقْدِيَّة.)

 

دون رِجال دين كيف يُمْكِن للنَّاس الصَّلاة إلى الله ؟

ومتى صليت فلا تكن كالمرائين، فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم

وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية” ( مَتَّى 6: 5-6)

إنَّها عِلاقةُ واحِدٍ إلى واحِدٍ، بين كُلّ واحِدٍ مِنَّا والخالِق عَزَّ وَجَلّ، وهي على وَجْهِ التَّحْديد ما تَدْعُو إلِيْهِ العقيدَة الفَلْسَفِيَّة الدَّاهِشيَّة. إنَّها مُكَوّنٌ آخَر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

صورة جُزْئيَّة 4: الحياةُ والمَوتُ

 

لِماذا نُولَد على الأرْض؟ من نحْن؟ هل نحن موجودون قَبْلَ مَولِدنا؟ إلى أين نحن ذاهِبون بعدَ الموت؟ هل هُناكَ حياةٌ خارِج هذا الكوكَب؟ أو أننا وحْدنا في هذا الكون؟ هل لَدينا خِيار أن نَعيش أو أن لا نَعيش هذه الحياة؟ أو كان قد فُرِضَ عَلينا من قِبَلِ أبائنا؟ أو من قِبَلِ الله تعالى؟ ما هو الغَرَض مِنْ وجودنا؟ لِماذا نُولَد مُخْتَلِفين كثيراً عن بَعْضِنا البَعْض؟ لماذا يولَد بعض الأشخاص أغنياء في حِين أنَّ آخَرين يولَدون فُقَراء جِدَّاً؟ لماذا يولد بعض النَّاس مع مواهِب عَظيمة- موزارت، إينشتاين، شكسبير- في حين أَنَّ البعض لا يمتَلِكون أيَّة مواهِب اسْتِثنائيَّة، بالكاد أيَّة موهِبَة، أو حَتَّى مع تَخُلُّفٍ عَقْلِيّ؟ لِماذا يولَد بَعْض النَّاس مع عاهَةٍ جَسَدِيَّة، مثل العَمى أوالصَّمم أو الشَّلَل في حين أنَّ آخَرين يولَد أصِحَّاء؟ لِماذا يُولد شخص في دولَةٍ إفْرِيقيَّة، في حين أنَّ غيره يولَد في أوروبا الغربيَّة أو في الولايات المُتَّحِدةِ الأمريكيَّة؟ لماذا يولَد البعْض في كَنَفِ أُسْرَةٍ رَحيمَةٍ ومُحِبَّةٍ، في حين انَّ غيرهُم يولَد في كَنَفِ أسْرَةٍ بَخيلَةٍ وبَغيضَةٍ؟ لِماذا بعض النَّاس يُحِبُّون أخوانهم وأخواتهِم كثيراً في حين أنَّ غيرهُم لا يَحْتَمِلون الوقوف معهُم ِدَقيقة واحِدةٍ؟ هل الإنسان هو الكائن الوحيد ذو الرُّوحِ الحِيَّة مع النَّفْسِ؟ هل الحيوانات لديها مِشاعِرٌ؟ ماذا عَنِ النَّباتات؟

 

هذه من الأشياء القليلة المُحَيّرة في الحياة. إنَّ مُعْظَم النَّاس يَنْظُرون إلى الحياةِ بِطَريقَةٍ مُبَسَّطة ويتَجَاهَلون ما هو غير بالِغ الوضوح. خُذ على سبيل المَثال كَلِمات، سيفاك داس، التي نَشَرَتْها  Abiding publications ” يَقول: (مِنَ الواضِح أن البَهْجة والسَّعادة هُما الهَدَفُ النّهائيّ للحياةِ كُلّها. و أيضاً ” في البدءِ كانت البَهْجة، كانت البَهْجة هي الوَعْي، والوعي كان البَهْجة. إنَّها لا تَزال على هذا النَّحو، وستكون دائِماً على هذا النَّحو. البَهْجَة لا نِهائيَّة. الوَعي لا نِهائيّ. الوجود هو البَهْجَة. البَهْجة هي الوجود. الوجود هو الوعي. الوَعْيُ هو الوجود.)

إنَّ ما يبدو غائباً هُنا هو عَدَم حُضور (الصِّلَة). لِماذا نوجَد كما نَحْنُ؟ ما هي علاقتنا مع الكائناتِ الأُخرى؟ كيف لَنا أن نتوافُق في هذا الكون الشَّاسِع؟ ما الذي سَيَحْصُل مِنَّا بعد موتنا؟ من أين أتينا؟ لِماذا نحن مُخْتَلِفون جِدَّاً عن بعْضِنا البَعْض؟ إنَّ هذه وقَضايا أُخْرى هي من الأهَميَّة بِمَكانٍ لِتُمَكِّنَنا من الإسْتكشاف والفَهْم لتَكون لَدينا فلسفة حياة ذات مَعْنى. إنَّ كلمات “سيفاك داس” جميلة. إنَّ الإنْسجام مع الكون وَالمخلوقات الأُخْرى يَجِب أن يَتَحَقَّق، لكن أيضاً، ما هو مَفقودٌ هُنا هو “لِماذا”؟  إذا كانت البهجة هي الغَرَضُ مِن وجودِنا فاسْمَحوا لي أن أطْرَحَ السُّؤال التَّالي: كيف وَصَل سيفاك داس إلى هذا الإستِنتناج؟ هل يوجَد في أيّ مكان في الكِتاب المُقَدَّس أنَّ الأمْر كذلك؟ هل قيل الأمر بهذه الطَّريقة مِن قِبَلِ نبِيّ؟ أم أنَّهُ علينا أن نقْبل كلماتهِ بِبَساطَةٍ على أنَّها الصَّحيحة؟

 

فَعَن ماذا هي الحياة في كُلّ شيء إذَن ؟ هل هي عَدَد المَكاسِب التي نجْمَعها؟ مبلَغ المال الذي لِدينا في البَنك؟ نوع السَيَّارَة التي نَقودُها؟ حجمُ المَنْزِل الذي نَعيشُ فيهِ؟ الحَيُّ الموجودون فيه؟ المدارِس التي نَحْضُرُها؟ عَدَدُ ألأطفال لَدينا؟ الخصائاص المادِيَّة والفِكْريَّة لِكُلّ فَرْدٍ؟ مَرْكزُنا الذي نَشْغَلهُ في وَظَائفنا؟ مكانتنا التي نحْملها في المجْتَمَع؟ الوقت الذي نقضيهِ في الدّراسة والقِراءة؟ اللحَظات المُمْتِعة التي نَقضيها في الألعاب الرّياضيَّة وغَيرِها من الأنشِطَةِ البَدَنيَّةِ؟ مقدار ما نَدَعُهُ للجِنْس؟ المُشاركة والعَطاء؟ الرَّحْمة والمَحَبَّة اتّجاهَ الآخَرين؟ مَحَبَّة الطَّبيعَةِ والمَخْلوقات؟ العَمَل الشَّاق أو تَفاديه؟ الفِئات الإجْتِماعِيَّة التي ننتَمي إليها؟ الكنيسة، الجامِع، المعْبَد، والكَنيس الذي نَحْضُرُهُ؟ الطَّعام الذي نَأْكُلُهُ؟ البِلاد التي نَعيشُ فيها؟ اللغة التي نَتَحَدَّثُ بِها؟ قد يقولُ البعض، إنَّهُ كُل هذه الأُمور وأكثَر من ذلك؛ قد يقول آخرون إنَّهُ ليسَ سوى عدد قليل مِن هذه الأشياء؛ وقد يقول عَدد قليل أنَّهُ بِرَغْمِ أنَّا بِحاجَةٍ لِعَددٍ كثيرٍ مِن هَذِهِ الأُمور لِتَكونَ لَدينا حياةً ذات مَعْنى، إلا أنَّها لا تُعْطي تَعْريفاً عن ما هي الحياة في كُلّ شيء. يأتي هذا الأمر الأخير في ضوء الفَلسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

يَرى المُلْحِدون أن هذه الأمور هي من أساسيَّاتِ الحياة. فَبِمُجَرَّد أن تنتهي الحياة لن يعود لديك شيء. أقولُ لَهُم: ” إذا كان هذا كل شيء عن الحياة فأنا لا أريدُها، أعطوني سبباً واحِداً لِماذا يَجِب أن أسْتَمِرُّ في العَيشِ؟” مِنَ المُثير للإهتِمام أن نُلاحِظ أنَّ العديد من المُلْحِدين لديهِم مُثُلاً عُلْيا في الحياة. وحَتَّى بالرَّغْمِ من أنَّهُم لا يُؤمنون بوجود خالقٍ أو بالحياةِ الأُخْرى، فإنَّهُم يُمَيّزون بين الخير والشَّر، والحَق والباطِل، والصَّواب والخطأ، لا لِشيء إلَّا ليُحَسّنوا من قيمة ما يَظُنوه صَحيحاً في الحياة، ولكي يَنقلوا هكذا حياة لأبْنائهِم. البعض منهُم ناشِطٌ من أجل بيئةٍ أنْظَف، ويُظْهِرون السياسة، والهياكِل الإجْتِماعيَّة، والبعْضُم منهُم لا يُعْطي بالاً.

 

إنَّ ما يَفْهَمُهُ النَّاس من تَعاليم الكُتُب المُقَدَّسة هو وجود الحياة بعد الموت. على الإنسان العَيْش بالإسْتِقامَةِ واتّباع القواعِد المنصوص عَليها في الكُتُب المُقَدَّسةِ لِتَحْقيق حياة أبديَّة هانِئةٍ، حيث لا ألم ولا بُؤس على الإطلاقِ. إذا انْحَرَف الشَّخْص عن القواعِد المَنصوص عَنْها في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ وعاشَ حياة  شَرّ وإثْمٍ، فسيكون بانْتِظاره حياة بُؤسٍ وألَمٍ أبَديَّينِ. إنَّ المفهوم العام الذي يسْتَوعِبُهُ النَّاس مِن التَّعاليم الدّينِيَّة التَّقليدِيَّة عن الحَياة والموت يختَصُّ بالطَّبيعة التَّبادُليَّة للنَّعيم والجَحيم. يُمكِن للإنسان أن يَذْهَب إمَّا إلى النَّعيم أو إلى الجَحيم. يُنْظَر إلى الحياة بعد الموت على أنَّها واحِدة مِن قُطْبَين: إحْداها مُشْرِقة، بَهيجَة، وجَيّدَة، في حين أن الأُخْرى مُظْلِمة، بائِسَة، وشِرّيرَة (أُنظُر الرَّسْم التَّوضيحي 2)

 basic

الرَّسْم التَّوضيحيّ 2

النَّعيم الجحيم الأرْض

في الماضِي، قَدَّمَت الكاثوليكيَّة “المَطْهَر” أو اللاشَيء، وهو مُعَدٌّ لِغير الكاثوليكيين. آمَنَ الكاثوليكيُّون بأنَّ غير الكاثوليكيين يدْخُلون في حالَة أبَديَّة من ” اللاإرْتِياح النَّفْسِيّ” كَعَذاب وَحيد، وذلك لأنَّهم لن يقِفون في حَضرَةِ الله. كانت هذه واحِدة من أكثَر المُعْتَقَدات سَلْبِيَّة في المَذْهَبِ الكاثوليكيّ. كيف يُمكن أن يَعْتَقِد الكاثوليك أن كُل من هو غير كاثوليكِيّ  مَحْكوم؟ إنَّ مبدأ النَّعيم والجحيم يبدو بَسيطاً بِما فيه الكِفاية، لكن دعوني أسألكم السُّؤال التَّالي: أليس مكتوباً ”  لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ”؟ (رومية 6: 23) من مِنّا بِلا خطيئة؟ هل هذا يعني أن جميعَنا مَحْكومُون؟ إذا سَألت رِجال الدّين حولَ الأمْر، يقولون لَكَ إنَّ الله يَغْفِر، لِذلك لا تَقْلَق بِشأنِ ذلك. إذا كان هذا هو الحال، فما هو معنى إيقاف رَجُل بِسَبَبِ ارْتِكابه كُلّ ماخَطَرَ ببالِهِ من شَرٍّ، ثُمَّ قُبَيل موتِهِ يتوب ويَطلُب المغفِرة بِصِدْق؟ هل هذا الرُّجُل مُتَّجِهٌ إلى السَّماء للإنضِمام إلى أولَئكَ الذين عاشوا حياتهم كُلّها بالبِرّ؟ لماذا أغْرَقَ الله تعالى البَشَريَّة جَمْعاء في أيَّامِ نوح؟ كيف يُمْكِن أنَّ الله تعالى لم ينتظِر حَتَّى يموتوا؟ لِماذا لَم يَغْفِر الله تعالى لَهُم؟ هل كان مَحْكومٌ عليهم جميعاً بالذَّهاب إلى الجحيم؟ ثَمَّةُ خطأ فادِحٌ هُنا، وأنا لا أعْتَقِد بأنَّ لَدينا الصُّورة الكامِلَة. علينا أن نتَذَكَّر أن أحْدَث الأديان الرَّئيسيَّة جاءت مُنذُ 1400 عاماً. هل يُعْقَل أنَّ يكون النّاس في ذلك الوقت عاجِزون عن فهم شَرْحِ أكْثَرَ شُمولاً عن النَّعيمِ والجَحيم؟ إن كُل شخص يقرأ العهد الجديد سيأتي على الآياتِ التَّالِية:

 “فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: فَسِّرْ لَنَا هذَا الْمَثَلَ. فَقَالَ يَسُوعُ: هَلْ أَنْتُمْ أَيْضًا حَتَّى الآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟” ( مَتَّى 15: 15-16)

”  ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَا تَعْلَمُونَ هذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟” ( مُرْقُس 4: 13)

” وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ.” (مُرْقُس 4: 34)

 

” إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟” ( يوحَنَّا 3: 12)

 

إن الجواب الذي يُعْطى لطفل يسأل كيف تُنْجَب الأطفال يكون في العادة  بِقَصَّةِ “الطُّيور والنَّحْل”. أعْتَقِدُ أنَّ الكُتُبَ المُقَدَّسة تُعْطينا بالضَّبْط  نُسْخة قِصَّة “الطُّيور والنَّحْل” كَنُسْخَةٍ عن الحقيقة. ومع ذلك، هُناك العديد من الآيات في الكُتُب المُقَدَّسة تُلَمِّح إلى الحقيقة المُطْلَقة حول النَّعيم والجحيم. ولكن قبل أن نَبْدأ باكْشافِها، هُناك عَدداً من القَضايا تَحْتاج إلى مُعالَجة.

 

إنَّ جميع الكُتُب المُقَدَّسَةِ تَنُصُّ على أَنَّهُ مِن إحْدى صِفاتِ الله تعالى هي أنَّهُ عادِل ونَزيهٌ ومُحِبُّ. لكن كيفَ نُفَسّر وجود المُعاناة غير المُتَكافِئة على الأرْض؟ لِماذا يولَد شَخْص ما صحيحاً في حين أن غيرهُ يولَد مع مَرَضٍ جَسَدِيّ؟ لِماذا يولَد شَخْص ما في الوِلايات المُتَّحِدَةِ الأمريكيَّة حيث الدَّواء والغِذاء مُتَوَفّران، بَيْنَما يُولَد شَخصٌ آخِرَ في دولة إفريقيَّةٍ فَقيرَةٍ حيث المجاعَةِ والمَرض لا يَسْمَحان للطّفْلِ بالبَقاءِ على قَيْدِ الحَياةِ في مَرْحَلَةِ الطُّفولَةِ؟ لِماذا يولَد شخص ما غَنِيَّاً في حين أنَّ آخر يولَد في فَقْرٍ مُدْقِعٍ؟

إذا سَألْتَ رِجال الدّين فإنَّهُم يقولون لك هذه هي مَشيئةُ الله تعالى، وأنَّ الكُلَّ يُقاضى وِفْقاً لِتَجَارِبِهِ. إنَّ هذا (الكلام) لا مَعْنى له على الإطلاق. إذا كُنَّا نُفْحَص من قِبَلِ تعالى، فَلماذا يُجَرَّب شَخْص ما باخْتِبار أسْهَلَ من غَيْرِهِ؟ قد يَمْتَهِنَ شخص فقير وظيفَتين لِتَغْطِيَةِ نفَقاتِه في حين انَّهُ ليس من الضَّروري لِشخص آخر من الطَّبَقة الوسْطى أو مِنَ الأثْرِياء أن يَقوم بِذلك. وعلى نَفْسِ المِنوال، على الشَّخْصِ الفقير أن يُعانِي من الجوع والأمْراض وعَدَمِ وجود الدَّواء والمَلابِس الثَّقيلَةِ والمأوى. ولكن لِماذا نحن غير  خاضِعين لِنَفْسِ الظُّروفِ على الأرْض؟  لِماذا يُولَد أَحدهم أَعْمى في حين أنَّ غيرهُ يولَدُ مُكْتَمِلَ البَصَر؟ لِماذا يَعيش البعْض حياةً أكثر صُعوبَةٍ من غَيرِهِ؟ لِماذا بَعْض النَّاس، مِثلَ إينشتاين وموزارت،  يولدون مع مواهِب اسْتِثْنائيَّة في أن غيرهُم يُولَدون مع قليل مِنها أو مع تَخَلُّف عَقلِيّ؟

 

إذا بَحَثْنا في الكُتُبِ المُقَدَّسَة للحُصُولِ على إجابات، فَسَتُصْبِح الصُّورة أوضَح قليلاً: ” وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟” (يوحَنَّا 9: 1-2) وبِعِبارَةٍ أُخْرى تَمَّ إيجاد رابِط بين الخَطايا والعُيوبِ الجَسَدِيَّة. ولكن كيف يُمْكِن أَن يكون هذا الرَّجُل دَفَعَ ثَمَنَ خَطاياه إذا كان قَد ولِدَ أَعْمى؟ لكي يكون هذا الأمر صَحيحاً يجِب أن يكون هُناكَ حَياةً سابِقة. إنَّ هذه العِلاقة بين الخَطايا والعُيوب الجَسَدِيَّة قد ذُكِرَت بِشَكلٍ واضِحٍ من قِبَلِ يسوع المَسيح. ” أيما أيسر ان يقال للمفلوج مغفورة لك خطاياك أَم أَن يقال قم و احمل سريرك و امشِ” (مُرْقُس 2: 9) أي أنَّ غُفْرانَ خطاياه هو علاج عيْبِهِ الخُلُقِيّ.  ” بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل و قال له ها أنْت قد بَرِئْت فلا تُخْطِئ أيضاً لئَلا يكون لك أشَرّ” (يوحَنَّا 5: 14)

“فاجاب يسوع و قال لهم ان ايليا ياتي اولا و يرد كل شيء

و لكني اقول لكم ان ايليا قد جاء و لم يعرفوه بل عملوا به كل ما ارادوا كذلك ابن الانسان ايضا سوف يتالم منهم

حينئذ فهم التلاميذ انه قال لهم عن يوحنا المعمدان” (مَتَّى 17: 11-13)

 

كيف يُمْكِن أن يكون إيلِيَّا هو يوحَنَّا المَعْمَدان؟ ألا يَعْنِي هذا أنَّ هُناكَ حَياةً سابِقَة، وحياة بعد الموت، وبِعِبارَةٍ أُخْرى، التَّقَمُّص؟

وَرَدَ في القُرْآن الكَريم” كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (سورة البَقَرة 28)

ليست حياتنا الرَّاهِنة سِوى فَصل صَغير من كِتاب الحياة. إنَّ الوثوب من فَصْلٍ إلى آخر يَتَحَقَّق من خِلال التَّقَمُّص. هذا مُكَوّن آخَر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

والآن بعد أن وضعنا حقيقة أنَّ كُلّ فَرْد هو موجود قَبْلَ الوِلادة، مِمَّا يَعْني أنَّهُ سيكون موجوداً مَرَّة أُخْرى في حياةٍ أُخْرى بعد الموت، إذ ذاك نَسْأل لِماذا؟ ما  الغَرض من نِعْمَةِ التَّقَمُّص؟ من المُهِمّ جِدَّاً أن نَفْهَم أنَّ كُلّ ما نَقوم به في هذه الحياة يُؤَثّر على الحياة القادِمة-أو رُبَّما الحَيَواتِ العديدة المُقْبِلَة- وأَنَّ كُلّ ما فَعَلْناهُ في الحَيَواتِ السَّابِقة يُؤَثّر على هذه الحياة ورُبَّما حَيواتٍ مُقْبِلة.

 

“وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ” (سورة الشُّورى 30)

” أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصارَهُمْ” (سورَة محمد 23)

“عَظِيمٌ فِي الْمَشُورَةِ، وَقَادِرٌ فِي الْعَمَلِ، الَّذِي عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَانِ عَلَى كُلِّ طُرُقِ بَنِي آدَمَ لِتُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، وَحَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ” (إرميا 32: 19)

يكافئني الرب حسب بِرِّي. حسب طهارة يَدي يَرُدُّ لي” (مزامير 18: 20)

 

إنَّ هذا يُغَيُّر الصُّورة الكامِلَة للعدالة. الآن نَفْهَم أن الطّفل الكائن في الدولَة الإفْريقيَّة الفقيرة قد “اسْتَحَقَّ” أن يولَد هُناك لأسباب لا يَعْلَمها سِوى الله تعالى وَحْدَهُ. 

 

لأن الله تعالى هو العادِل والمُنْصِف، وبِما أنَّنا بعيدون كُلّ البُعْد عن الكمال وليس بإمكاننا أن نَعيش حياتنا بِأكمَلِها دون ارْتِكابِ ذَنْب، كان التَّقَمُّص ليعطي كُل واحِدٍ مِنَّا بِدايةً في الطُّهْر. سَنُعاقَب عن الأعمال السّيّئة التي اجْتَرَحْناها في حَيَواتِنا السَّابِقة، وسَنُكافأ عن أعْمالِنا الصَّالِحة. إذا نال كُلٌّ مِنَّا عُقوبَة كامِلة عن ذُنوبه، فَسَتُصْبِح الحياة جَحيماً لا يُطاق. لكن لأنَّ الله تعالى رَحيم، فإنّا وفي كَثير من الحالات ، لا ننال عقاباً كامِلاً مَرَّة واحِدة وعلى أكْمَلِ وَجْهٍ. “… وَيُعْلِنُ لَكَ خَفِيَّاتِ الْحِكْمَةِ! إِنَّهَا مُضَاعَفَةُ الْفَهْمِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُغْرِمُكَ بِأَقَلَّ مِنْ إِثْمِكَ” (أيُّوب 11: 6)

 

تأخُذ دورة التَّقَمُّص بالإسْتِمرار طالما أنَّهُ  يَتِم ارْتكاب خطيئة واحِدة. الآن نَفْهَم ما المَقْصود بِ ” لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا” (رومية 6: 23) بمُجَرَّدِ أن نُصْبِحَ طاهِرين، تكون الحياة الأبَدِيَّة بانْتِظارِنا، حيث لا موت. ومن ناحية أُخْرَى، إذا واصَلْنا التَّراجُع، فسيكون مَصيرنا المعاناة الأبَديَّة. من وجهَةِ النَّظَرِ هذه وعندما ننظُر إلى من حولِنا وَنَرى الأصِحَّاء والمَرْضى، الأغْنِياء والفُقَراء، الموهوبين والجاهِلين، سَنُدْرِك أنَّنا مَحْكومون من خِلالِ نِظام كونِيّ عادِل. ” وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ۗ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ” (سورة الأنعام 39).

 

فَكيف يُؤَثّر هذا التَّغْيير في تَصورنا عَن النَّعيم والجحيم؟ والآن وبَدَلاً من إظهار عِلاقة النَّعيم والجحيم على أنَّها تَبادُليَّة وعلى أنَّهما بِمَنْأى عن الأرض (أنْظُر إلى الرَّسْم التَّوضيحي 2) حيث يَظْهَرانِ على أَنَّهُما طَرَفَيّ نَقيض، في احْتِمالات، رُسِما بِشَكْلِ (طِيفٌ مَنشورِيّ).

هُناكَ توجَد أكثر العوالم الماديَّة طهارة، وهذه هي أقْصى دَرَجات النَّعيم. وبالإضافَةِ إلى ذلك، توجَد أكثر العوالم حلكاً، هي أقصى درجات الجحيم. إنَّ كُلّ ما بَيْنهُما هو مزيج من (الدَّرجات النَّعيمِيَّة والجَحيمِيَّة) ومن (مَجْدِ الدَّرَجة الرُّوحِيَّة). وَوِفْقاً لِهذا التَّعْريف، نحن نَعيش في عالم يجمع بين وَمضاتٍ من المُعاناة والسَّعادَة على مُخْتَلَفِ المسْتَويات حيث تتشَكَّل حياتنا. وبِعِبارَةٍ أُخْرى، في بعض الأوقات نَشْعُر على الأرْض بِجَوّ شبيهٍ بالجحيم، وفي أحْيان أُخْرى نَشْعُر في جوّ شبيه بالجَنَّة (أُنْظُر الشَّكل 3). من المُسْتَحيل الإنتقال من مَرجعٍ (حَياتِيّ) ما إلى أعْلى دَرَجات النَّعيم بِخطْوَةٍ واحِدَةٍ. فهذا يتطَلَّب كَمالاً واخْتِبارات تسْتَعْصي على فَهْمِنا؛ فَمَنْ هو كامِلٌ؟ وبالمِثْل، فَإنَّ تَعَدُّد الدَّورات التَّقَمُّصِيَّة تَمْنَع الإنْحِدار إلى أقصى الجحيم. إِنَّ الإيمان (بِوجود) نِظامٍ عالمَي للعدالَة يَرصُد أعمالنا الشّريرة مُقابِل سُلوكنا الصَّالِح، مُنَفّذاً الجزاء العادِل إزاءهما لَهُوَ مُكَوّنٌ آخر من الفَلْسَفة الدَّاهِشِيَّة.

expanded

الرَّسْم التَّوضيحيّ 3

يقول الإعْتِقاد الشَّائع أنَّ الإنسان يَذْهب إمَّا إلى النَّعيم أو إلى الجحيم بعد مَوتِه

إنَّ الحياة على الأرْض غير مُقْتَصِرة على الهيئة البَشَريَّة فَقَط. بل تَمْتَد إلى جميع الأجناس لِتَشْمل الحياة الحيوانيَّة والنَّباتِيَّة وحَتَّى المواد غير الحَيَّة. لدى جميعها عواطِف، وحُرِيَّة الإخْتيار بين الخير والشَّر. ومن المُمْكِن جِدَّاً أن يكون كُلّ واحِد مِنَّا قد وُجِدَ على هيئة حيوان أو نبات أو جَماد في حياة سابِقة، ومن المُمْكِن جِدَّاً أنْ نُصْبِح كذلك، في حَياةٍ مُقْبِلَةٍ. على الرَّغْم من أن الحيوانات لا تَسْتَطيع التَّحَدُّث إلينا بِلُغَتِنا، فلا مُشْكِلَة لديها في مخاطَبَةِ بعْضها البَعْض باسْتِخدام لُغَتِهِم الخاصَّة. إنَّ  للحيوانات عالَمٌ خاصٌّ تَحْكُمُهُ قوانين خاصَّة. عليها الإخْتِيار بين الخير والشَّر، تماماً كما نَفْعَلُ نحن. لا نستَطيع مخاطَبَتها وذلك لأسباب مَكْتُومَةٍ عَنَّا. جاء في القُرْآن الكَريم: ” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُوْنَ” سورة الأنعام 38

”  فَاسْأَلِ الْبَهَائِمَ فَتُعَلِّمَكَ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ.
أَوْ كَلِّمِ الأَرْضَ فَتُعَلِّمَكَ، وَيُحَدِّثَكَ سَمَكُ الْبَحْرِ.
مَنْ لاَ يَعْلَمُ مِنْ كُلِّ هؤُلاَءِ أَنَّ يَدَ الرَّبِّ صَنَعَتْ هذَا؟ الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ. ” (أيُّوب 12: 7-10)

إنَّ الإعْتِقاد بأنَّ جميع الأجْناس الحَيَّة على الأرْض لها نُفوس لَهُوَ مُكَوّنٌ آخَرٌ من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

كيف لِلنَّاس أن تَقْرأ هذه السُّطور من الكتاب المُقَدَّس ويُعْلِنون أنَّ  البَشَر هم المجموعة الوحيدة  التي تَتَمَتَّع بِنَفْس.  ماذا عن قِصَّةِ النَّبي بَلعام والحِمار؟ (عَدد 22: 23-33)

باخْتِصار، إن الحمار الذي كان النَّبي بَلعام راكِباً عليه رأى ملاك الرَّب الذي كان على وشك أخْذ حياة بلعام لَكِنَّهُ تَمَّ تَجَنُّبَ ذلك ثلاث مَرَّات. وعِنْدَما صار مِن المُسْتَحيل تَجَنُّب ذلك لِفَتْرَةٍ أطوَل، وبعدما ضَرَب بَلعام الحِمار ثلاث مَرَّات، سُمِحَ للحِمار أن يَتَكَلَّم، فسأله، أي الحِمار، عن سَبب ضَرْبِهِ  ثلاث مَرَّات. ثُمَّ سُمِحَ لِبَلعام بِرُؤيَةِ المَلاك، فأوضَح ملاك الرَّب لَهُ أنَّ الحِمار قد أنْقَذَ حياته ثلاث مِرَّات، فإن لم يكن الحِمار قد تَتَدَخّل لَكان قَد مات. يتَحَدَّث القُرآن الكريم أيضاً عن حَياة الحيوان، في قِصَّة النَّبي سُليمان حينما كان في إحْدى رَحلاتهِ (سورة النَّمل 17-19). تَكتَشُف نملَةً اقْتِراب قافِلَةِ النَّبيّ سُليمان عليه السَّلام فَتُحَذّر النَّملات الأُخْرى بأن عليهم بالإخْتِباء وإلَّا سُحِقوا بالأقْدامِ دون عِلمهِ. فَهِمَ سُليمان ما قالتهُ النَّمْلَة، ابْتَسَم، وشَكَرَ الرَّب على بَرَكاتِهِ.

 

القُرآن الكريم يَحْتَوي آيات عديدة عن الحيوانات والأشكال الأُخْرى للحياة.

”  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ  ” (سورة النُّور 41)

 

” وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ” (سورَة الرَّحمن 6)

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ” ( سورةُ الواقِعَةِ 60- 61)

” قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ” (سورة المائدة 60)

“وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الذي فَطَركُم أَوَّل مَرَّة…” (سورة الإسراء 49-51)

 

في هذه المَرْحَلَة، حاول أن تتصَوَّر بِأنَّ  هذا النّظام هو نِظامٌ عالَمِيّ. ليس هو نِظام يَنْطَبِقُ على جميع أشْكال الحياة على الأرْض فَحَسْب، بِل هو نِظام يشمَل الكون بِأسْرِهِ بِملايين مَجَرَّاتِهِ وبِمِئات ملايين نجومِهِ التي في كُلّ مَجَرَّة.

الآن نفهم ما هو المَقْصود بِ ” في بيت أبي مَنازِلَ كثيرة…” ( يوحَنَّا 14: 2)  وَ بِ ” مَجْدُ الشَّمْسِ شَيْءٌ، وَمَجْدُ الْقَمَرِ آخَرُ، وَمَجْدُ النُّجُومِ آخَرُ. لأَنَّ نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ.” (1 كورنثوس 15: 41)

لا يُشْتَرَط أن يكون سُكَّان العوالِم الأُخْرى بِهيئة بشَرِيَّة أو من لَحْمٍ ودَمٍ. إنَّ كُلَّ عالَمٍ محكومٌ بقواعد مُعَيَّنة لا تنطَبِق إلَّا عَليه. قد تكون بعض العوالم، كالأرض، ماديَّة بِطَبيعتها، وقد تكون عوالم أُخْرى مادِيَّةً أكْثَر، وقد تكون عوالم غيرها أقَلَّ مادِيَّة. إن الإيمان بوجود أشكال حياتيَّة أُخْرى في الكون  لَهُوَ مُكَوّنٌ آخَر من الفَلْسَفَةِ الدَّاهِشيَّة.

 

لا ينبَغي لنا أن ننظُر إلى الموت باعْتِبارِهِ أمْراً سيّئاً ولكن كَبِداية جديدة. طالَما أن الإنسان يَعيشُ حياتَهُ/ا في اسْتِقامَة، فلا يوجَد شيء يَدْعو للقَلَق. إذا لم يكن الإنسان المُتَوَفّي قد سَعى بالبِرِّ، فليس بوسْعِنا سِوَى أن نَطْلُبَ لهُ الرَحْمَة الإلهيَّة لِأنَّ المُعاناة التي سَيَمُرُّ بها قد تكون في أقْصى حُدودها.

 

كَم هو عَدد المَرَّات التي شعَرْتَ فيها بأَنَّكَ وَلَجْتَ مَكاناَ ما على الرَّغْم من أنَّها كانت المَرَّة الأولى لكَ فيه؟ يُمْكِن أَن تَرى شَخْصاً لِأوَّلِ مَرَّة وتَشعُر كَأنَّك تَعْرفهُ منذ سَنوات، كما لو كان شقيقك أو شَقيقتكَ المَفْقودة، وتملأ البهجَة قَلْبكَ. قد تشْعُر اتجاه شخص آخر بغير مُبالاة؛ وأيضاً قد تَشْعُر نَحْوَ آخَر بالبُغض لا لِسَببٍ ما على الإطلاق- أو رُبَّما قد يكون هُناك سبب ما. قد يكون شُعورك ناتِجٌ عن مواجهةٍ لذلك الشَّخص، في تَقَمُّصٍ سابِق.

 

إنَّ إحْدى الجوانِب الهامَّةِ في التَّقَمُّص هي أنَّه لا أَحَد (باسْتِثناء الوحي الذي يُؤْتاهُ نبيّ من الله لإنجازِ هَدَفٍ مُحَدّد) يُمْكِنهُ أن يَعْرِف أي شيء عن حالَتِهِ التقَمُّصيَّةِ السَّابِقَةِ. لِذا فبِإمكاننا الإختيار بِحُرِيَّة بين الخير والشَّر، لا بِدافِع الخوف. هل يُمْكِنُكَ أن تتخيَّل كيف يُمْكِن أن تَعيش مع عِلْمِكَ أنَّكَ قد ارْتكَبْتَ عَمَلاً بَشِعاً في تَقَمُّصٍ سابِق؟ إذا تَكَرَّر مَعَكَ الموقِف نَفْسَهُ فهل سَتَتَجَنَّبَ ارْتِكابَ العَمَل لأنَّكَ ما زِلْتَ تَتَذَكَّر العِقاب الذي نَلْتَهُ، هل أنَّكَ سَتَمْتَنِع لأنَّ الخير الذي فيك انْتَصَرَ على الشَّر؟ إذا ادَّعى أي فَرْد مَعْرِفَةَ ما جاء في حياتِكَ أو حَيَواتِكَ السَّابِقة، فلا يَنبغي عليكَ تَصْديقَ هذه الإدِّعاءات إلَّا إذا كان لَديكَ أدِلَّةً دامِغة على أنَّهُ/أنَّها نبيّ مُرْسَلٌ من الله.

 

صورة جُزْئيَّة 5: آلِيَّةُ الحَياة

 

عِندَما تَتَحَدَّث الكُتُب المُقَدَّسة عن النَّفْس، هل في الواقِع تتحَدَّث عن كيان محْدود بِالكُلِيَّة، أَم أنَّ النَّفْسَ هي أَكثَر حَيَوِيَّة ونَشاطاً؟ وِفْقَاً للتَّقْليد، يُنْظَر لإلى الرُّوح على أنَّها كائن خالِد يَبْدَأ وجودها مع وِلادَةِ الطِّفْلِ، ثُمَّ تُحافِظ على هذا الوجود إلى جانِب جَسَد الإنسان حَتَّى الموت، ثُمَّ تَبْقى مُنْفَصِلَةً عن جِسْمِ الإنسان إلى الأبَد. أمَّا بِخصوص التَّقَمُّص، قد يكون وجود الرُّوح بَدأ قبْل أن تكون علاقة الزَّمان والمكان قَدْ بَدَأت أي (قبل حُدوث الإنْفِجار الكَبير The Big Bang) أي منذ 10-20 بليون سَنَة. وسوف تَسْتَمِر حَتَّى بعد زوال أي علاقة زمانيَّة مكانيَّة يُمكن أن توجَد، هذا إذا حَدَث ذلك حَقَّاً.

طالَما أنَّ التَّقَمُّص موجودٌ، سَتَظَلّ النَّفْس مُرْتَبِطَة بِنوع ما في الوجود أكانَ (إنْساناً أمْ حيواناً أمْ نَباتاً، أمْ جَماداً، أم أيّ كائن مِن عالَم آخر

 

كيف يُمْكننا تَحْديد ما هي النَّفْس وما هو مدى ارْتِباطِها بِالنُّفوس التي في الكون. قَبْلَ أن نُحاوِل إنْجازَ هذه المُهِمَّة، اسْمَحوا لي أنْ أَطْرَحَ بَعْضَ الأسْئِلَةِ البَسيطة: لِماذا توجَد قواعِد دينِيَّة تُحَظّر الإخْتِلاط الجِنْسِيّ، والعِلاقات الجِنْسيَّة بين افْراد العائلة الواحِدة وبين أفْراد الجِنْس نَفْسَهُ، والإتّصال الجِنسيّ مع الكائنات الأُخْرى؟ ماذا عَنِ القِمار؟ أو السُّكْر؟ فَمَعَ أنّ هذه الأُمور تجلِب المُتْعَة الجَسَديَّة لِبَعْضِ النَّاس، فَلِماذا نَهى الله تعالى عَنْ جميعِها؟ هل يحاوِل الله تعالى جَعْل حياتِنا أَكْثَر صُعوبَةٍ؟ أمْ أَنَّ هُناكَ سَبباً وَراءَ ذلك؟ إنَّ السَّبَبَ الرَّئيسيّ وراء هذه القوانين هو وجود سيَّالات روحيَّة.

إنَّ الإيمان بوجود السيَّالات الرُّوحيَّة باعْتبارِها جوهر الوجود لَهُوَ مُكَوّنٌ آخَرٌ من الفَلْسَفةِ الدَّاهِشيَّة

 

ما هي هذه السَّيَّالات الرُّوحِيَّة؟ هل هي مَرْئِيَّة أَمْ غير مَرْئِيَّة؟ هل يُمْكِن اكتِشافها؟ إذا كانت موجودة، فَلماذا، إذَن، لم يَتِمَّ ذِكْر أيّ شيء عَنْها في الكُتُب المُقَدَّسَةِ؟ في أَبْسَطِ وَصْفٍ، إنَّ السَّيَّالاتِ الرُّوحِيَّة هي امْتِداداتٌ للرُّوح في العوالم التي توجِد الحياة فيها والعوالم التي بِلا حياة أيضاً. إنَّها الرَّوابِط إلى الرَّوح الخالِدة التي تتحَدَّث عنها الكُتُبُ المُقَدَّسة. إنَّها الموجات التَّرَدُّدِيَّة التي تتجاوز حَدَّ القُدْرَة على كَشْفِها بِواسِطَةِ الأدَوات العِلْمِيَّة لَدينا. كما أنَّها لا تَخْضَع للقوانين الطَّبيعِيَّةِ للكون. تُدْعى (مجموعة) السيَّالات الرُّوحيَة المُعَيَّنة “بالنَّفْس”. تنقَسِم السَّيَّالات الرُّوحِيَّة إلى مجموعَتَين: تَتَفَرَّدُ المَجْموعَةُ الأُولَى مِنْها بانْتِمائها إلى (عالَمٍ مُعَيَّنٍ).

وبِخصوص حالةِ الأرْض، يَنْفَرِد الأمر فيها بِحيث أنَّ كل مجموعة (سَيَّالات) ،منها، تقوم بالتَّشكُّلِ (المادّيّ)، وهذا ينطَبِق على كُلّ كائن من الكائنات على حَدّ سَواء. ولِتَبْسيطِ الأمْر سَنُطْلِق على هذه المجموعة: مجموعة 1- السَّيَّالات الأرْضِيَّة

 

إنَّ مجموعة 1- السَّيَّالات الأرضيَّة هي المَسْؤولة عن إرْشاد الذَرَّات للإمْتِزاج بأشكال مُعَيَّنَةٍ لِتَكوين جُزَيئات عُضوِيَّةٍ وغيرَ عُضْوِيَّةٍ. تقوم السَّيَّالاتِ الرَّوحِيَّة بِإلإيعازِ إلى الجُزِيْئاتِ العُضوِيَّة لِتَكْوينِ الأحْماضِ الأمِينِيَّة. تقوم السَّيَّالات الرُّوحِيَّة أيضاً بإلإيعازِ إلى الأحْماضِ الأمِينِيَّةِ للإتّصال (ببعْضِها البَعْض) في سلاسِل طويلة لِتشكيل الببتيدات (Peptides)  التي بِدَوْرِها يتِمّ الإيعاز إلَيْها لِتَشْكيل سلاسِل لإنشاء البروتينات. يُوعَز إلى البروتينات للتَّفاعُل مع أُخْرى لِتَشْكيل جبلة (Protoplasm) التي هي السَّائل المُعَقَّد الموجود في الخَلايا. تُوعِزُ السيَّالات الرُّوحِيَّة إلى نوعين من الجُزَيئات لِتشكيل ما بِداخِل الخَلِيَّة ما يُسَمَّى بِ (الحِمْضُ النوَوِيُّ الرِّيبي) (RNAribonucleic acid) و الحمض النووي منقوص الأكسجين (deoxyribonucleic acid  DNA) الجُزَيْئات التي تَحْتَوي على كُلّ المَعْلومات اللازِمة لِتَكاثُرِ الخَلِيَّة.

 

تُوعِزُ السَّيَّالات الرُّوحِيَّة إلى الخَلايا المُخْتَلِفَة للإجْتِماعِ في نَمَطٍ مُعَيَّنٍ لِتَشْكيل الأعْضاء التي تُؤَلّف مَعاً كُلَّ نوعٍ من الكائنات. على سَبيلِ المِثال، حقيقة وجود مجموعة فَريدة (خاصَّة) من نوعِها من السيَّالات الرُّوحِيَّة التي تُشَكّل الإنسان، وأُخْرى لِتُشَكّل (صورة) الكَلْب، القِط، الغَزال، النَّمْلة، الشَّجَرة، والنَّبات. وبالإضافَةِ إلى كونِها مَسْؤولَةٌ عن تَشْكيل الكائنات، فإنَّ السيَّالات الرُّوحيَّة أيضاً مَسْؤولَةٌ عن تَحْديدِ نوع الجِنْس، لون البَشَرة، المَوْقِعِ الجُغْرافِيّ للكائن، وهذه من بين أُمور أخرى.

 

هُناكَ سَيَّالاتٌ رُوحِيَّةٌ مُشْتَرَكةٌ يتشاطرها أعْضاء كُلّ فَصيلَة على حِدى، وهُناك سَيَّالات روحيَّة تتشاطرها فَصيلة ما مع فَصيلَةٍ أُخْرى. على سَبيلِ المِثال، إنَّ مُعْظَم الأنواع الموجودة على هذا الكوكَب تولَدُ مع رغَباتٍ جِنسِيَّةٍ ومع الحاجَةٍ إلى العَيْشِ مع أعضاء آخرين في نَفْسِ الفَصيلَة. ومن ناحِيَةٍ أُخْرى، تُولَدُ بَعْض الأَنْواع مَعَ  غرائز مُعَيَّنَة (سَيَّالاتٍ رُوحِيَّةٍ) لِتُمَكّنهُم من البَقاء والبَحْث عن الغِذاء (الإصْطِياد). إلى الآن كُنَّا نَتَحَدَّثُ عن مجموعَة 1-السيَّالات الرُّوحِيَّة الأرْضِيَّة، التي هي النَّوع التي تَحْكُم وجودنا المادِيّ على الأرْضِ.

 

سَنَدْعو المَجْموعة الثَّانِيَة من السَّيَّالاتِ الرُّوحِيَّة، المجموعة 2 السَّيَّالاتِ الرُّوحِيَّة. هذه هي السَّيالات الكونِيَّة التي تُحَدّد (الشَخْصِيَّة المعْنَوِيَّة) لِكُلّ نَوع

إنَّها (الصِّفات) مِثلَ حُسْنِ السَّيْرِ والسُّلوكِ، الحُبّ، الإخْلاص، الرَّحْمَة، الثّقَة ، الإيمان، الوَلاء، الشَّجاعة، الصّدْق، والصّفات الحَسَنَةِ الأخْرى التي هي امْتِداداتٌ مِنْ عَوالِمَ عُلْوِيَّةٍ. في حين أنَّ الحَسَد، الأنانية، الكراهِية، الغيرة، الطَّمَع، الإيذاء، والصِّفاتِ المُهينَةِ الأُخْرى إنْ هِيَ إلَّا امْتِدادتٌ لِعوالِمَ سُفْلِيَّةٍ. وهَكَذا، فحِينما يَقومُ كُل فَرْدٍ بِتَعْزيز خِصالِهِ العُليا ، فسوفَ يَرْفَع سيَّالاتُهُ/ا إلى مُسْتَوى أعْلى، وإذا ما ما عَزّز الخِصال السُّفْلِيَّة، فسَيُسَفّل ذلك الإنسان سَيَّالاتهُ الرُّوحِيَّة إلى مُسْتوىً أدْنَى.

 

لِكُلّ فصيلة ما سيَّالٌ رئيس. هذا هو السَّيَّال الرُّوحِيّ المَسْؤول عن مَنْحِ الحياة. إذا غادَرَ السَّيَّال الرُّوحِيّ الرَّئيس إنساناً، فإنَّ الظَّاهِرة المَدْعُوَّة مَوْتاً سَتَأخُذُ مكانها، وستَبْدأ حياة أُخْرى في مَكان ما في الكون، وهذا يَتَوَقَّف على المُسْتَوى الرُّوحِيّ لِ (مجموعة 2 سيَّالات روحِيَّة) في اسْتِحْقاقِها بِناءً على أعْمالِها في تَقَمُّصاتٍ سابِقة. وَكَمِثالٍ على العلاقَةِ الرُّوحِيَّة، لِنَفْتَرِضَ أنَّ أحَد أفْراد فَصيلَةٍ ما كان مُشارِكاً في قَضيَّة نَبيلَةٍ. هذا العَمَل (النَّبيل) قد يُؤَدّي إلى تَجَسُّدِ أحَدِ سَيَّالات (مجموعة 2 سَيَّالات روحِيَّة)  في مكان ما في الكون، حيثُ تأخُذُ شَكلاً من أشْكال حياةٍ ما بعْد وفاةِ هذا الإنسان على الأرْض، أو حَتَّى في أثناء وجوده على قَيد الحياة. يَتِمُّ تَحْديد (نِظام) هذه الحَياة الجديدة من خلال (مجموعة 1-  عالَم 1 سَّيَّالات رُّوحِيَّة) الخاصَّة بِالعالَم عَيْنِهِ وبِ (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) التي (لِلنَّفْسِ أو الصِّفات الشَّخْصِيَّة) للشَّخْص. وكَمُكافَأة على الأعْمال النَّبيلة فإنَّ الأوضاع في الحياة الجديدة (المُقْبِلَة) أو حَتَّى إذا (تزامن وجودهُ على الأرض عند وصول السيَّال الذي تَرَقَّى إلى عالم أفْضَل) فَستكون الحياة هُناك أفْضَل من تلك التي على الأرْض. فمثلاً، قد لا يكون هُناك وجود للمَرَض أو المَجاعة في العالَم الجديد. قد يكون هذا العالَم بَعيداً عن الأرض بِآلافِ السَّنين أكان فِكْرِيَّاً أم عِلْمِيَّاً.

 

وبالمِثْل، إذا كان أحد أعْضاء فَصيلَةٍ ما قد شارِكَ في نَشاطٍ غير أخْلاقِي للغاية، فهذا سَيُؤَدّي إلى تَجَسُّدِ سيَّالات من (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) في في مكان آخر في الكَون حيث ستَّتّخِذُ شكلاً آخر من أشْكال حياةِ هذا الإنْسان الأرْضِيّ بعد وفاتِهِ، أو حَتَى في أثناءَ وجوده على قيد الحياة. مَرَّة أُخرى، هذه الحياة الجديدة تُحَدّدها (سَّيّالات مجموعة 1 – عالَم 2 )؛ أي الخاصَّة (بالعالَم الثَّاني) وبِ ( مجموعة 2 سَيَّالات روحيَّة) الخاصَّة (بالنَّفْس المعنوِيَة)؛الإنسان ذاته. وكَعِقابٍ للعَمَل غير الأخْلاقِيّ، فستكون ظروف الحياة الجَديدة للحياة المُقْبِلَة أو المُتَزامِنَة مع وجود ذلك الإنسان على الأرْض أكثر سوءاً من تِلْك التي على الأرْض. فَعَلى سبيل المِثال ، قَد تكون الأمْراض والكوارِث الطَّبيعِيَّة مُنْتَشِرة. إنَّ هكذا عالَم قد يكون آلافاً من السّنين وراء المُسْتوى الفِكْرِي والعِلْمِي لأهل الأرْض.

 

هناك 150 درجة من العوالِم السُّفْلِيَّة و150 دَرَجة من العَوالِم العُلْوِيَّة. يَتِمُّ تَعْرِيف مُسْتَوى 150 السُّفْلِيّ بِأقصى الجحيم، بَيْنَما يُعَرّف المُسْتَوى ال 150 العُلْوِيّ بِ أقْصَى النَّعيم. للأسَف فإنَّ الكُتُب المُقَدّس تُشير فقط إلى النَّعيم والجحيم دون أن تَذْكُر أي شيء بينهُما. يَتَمَيَّز العالَمَيْن السُّفْلِيّ والعُلْوِيّ بوجود مادِّي. إنَّهُ وراء هذا الوجود المادّي توجَد 150درجة للعالَم الرُّوحِيّ. نحنُ لا نَعْرِف الكثير عن هذا العالَم الرُّوحِيّ-إنَّهُ عالَم الله، وهو مَنْشأ يسوع المسيح وجميع الأنبياء الآخَرين، ومنزِلُ جميع الأرْواح.

 

إنَّ كُلَّ سَيَّالٍ روحِيّ لِروحٍ مُعَيَّنة يَرْبِط هذه الرُّوح بِعالَمٍ مادِيّ؛ إمَّا عالم سُفْلِي (ع س) أو عالَمٌ عُلْوِيّ (ع ع) . إنَّ وجود (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) في أَيّ عالَمٍ كان، يَعْني حُكْماً أنَّ حياةً ما يجب أن تبدأ. وكمِثالٍ بَسيط جِدَّاً، فإنَّ النَفْس 1 يتزامَن وجودها في (ع ع1) ، (ع ع 3 )، (ع س 1 )، (ع س 2 )، و (ع س 4) في حِينِ أنَّ النَّفْس 2 يتزامَن وجودها في  (ع ع 2 )، (ع س 1) ، (ع س 3)، و (ع س 150) . إنَّهُ من من غير الواضِح مَعْرِفة كم هو ،العدد، المسموح به  لِوجود النُّفوس المتَزامِنة في العوالم لِكُلّ روح. قد يكون اتِّساعَ الكون قد أوجِدَ لِمَنْع تَدَخُّلِ أي كائن ما من العوالم السُّفْلِيَّة في شُؤون الكائنات الموجودة في العَوالِم العُلْوِيَّة. لكن العَكْس ليس بالضَّرورة أن يكون صَحيحاً. إنَّ كائنات العوالم العُلوِيَّة هي أكْثَر تَقَدُّماً عِلْمِيَّاً ورُوحِيَّاً، من تلك التي للعالَمِ السُّفْلِيّ. ولكن بِما أنَّ وجودها مادِيٌّ بِطَبيعَتِهِ، فهِيَ مُقَيَّدة بِسُرْعَةِ الضَّوء كأعْلَى سُرْعة يمكن السَّفَر من خِلالها، هذا ما لَم يَكُن قد حَدَثَ تَدَخُّل رُوحِيّ ضَرورِيّ لإنْجازِ هَدَفٍ مُعَيَّن.

fluids

الرَّسْم التَّوضيحيّ 4

مِثال مُبَسَّط عن وجود النُّفْوس المُتَزامن وجودها في العوالِم العُلوِيَّة والسُّفلِيَّة

كما أنَّ الأنبِياء عليها السَّلام تأتي إلى الأرْضِ في مُهِمَّةٍ، كذلك يُرْسَلون إلى عوالِمَ أُخْرى من أجْلِ الهِدايَةِ. كل مُسْتوى يَحْتَوي على ملايين إن لم يَكُن مليارات من العوالِم. وبِعِبارَةٍ أُخْرى قد يكون هُناك مليارات من العوالِم التي هي بِنَفْسِ المستوى الرُّوحِيّ للأرْض. تحْتَل الأرض المسْتوى الأوَّل من الدَّركات السُّفْلِيَّة. إنَّهُ بِمُجَرَّد أن يَتَمَكَّن سَيَّال رُوحِي من تَطهير نَفْسَهُ من المُيول السُّفلِيَّة مِنْ خِلال آلاف بل بلايين من الدَّورات التَّقُمُّصِيَّة عبر الكون، يُمْكِن لهُ إذ ذاك الإنْتِقال إلى الدَّرجات العلوِيَّة المُمْكنَة فَبُلوغ مَرْحَلَةِ الكمال وولوج العالَم الرُّوحِيّ؛ أي أنَّها لن يكون لديها ما يربطها بالعوالِم المادِيَّة إلى الأبَد. طالَما أنَّهُ يوجد سَيَّال واحِد يربِط الرُّوح بِ (مجموعة 2 سيَّالات روحِيَّة) عُلويَّا كان أم سُفْلِيَّاً في أيّ مكان في الكون، فإنَّ التَّقَمُّص لا بُدّ جاري. أمَّا عن كيفيَّة اتّصال الأرواح بعضها ببعض في المَلأ الرُّوحِي فهو أمر غير مَعْلومٍ لَدينا. كُلَّما ارْتَقَتْ سيَّالات (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) المُتَّصِلَة  بالرُّوح، فستعْلو رُتْبة تلك الرُّوح في عالم الأرواح، وبالمِثْل، كُلَّما تدنَّتْ درجة (مجموعة 2 سيَّالات رُوحِيَّة) المُتَّصِلة بالرُّوح فسَتَنْخَفِض رُتْبَة تلك الرُّوح في المَلَأِ الرُّوحِيّ.

 

إن (مجموعة 2 سيَّالات رُوحِيَّة) يمكن أن تتبادَل مع بعضها البعض عندما يتفاعل شخص ما مع غِيره. ولِهذا السَّبب تَحْديداً، فإنّ تَعْريض النَّفس مع جماعات السُّوء سيأتي بِتأثير سَلبِيّ علينا، بينما تَعْريض النَّفس لِجماعات البِرِّ سيأتي بِتأثير إيجابِيّ عَلينا. وبِعِبارَةٍ أُخْرى، ” التُّفَّاحات السّيِّئة تُفْسِدُ التُّفَّاحات الجَيّدة.” إن (تأثير) تبادُل السيَّالات الروحِيَّة يَحْصُل بوضوح أكثَر في حالَةِ العِلاقاتِ الجِنْسِيَّة.

 

عندما يقوم رَجُل وامرأة بِجُماعٍ جِنْسِيّ، فإنَّهُما يَتَّفِقان على دَمْجِ بعض من سَيَّالاتِهما الرُّوحِيَّة (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) مع بَعْضِها البَعْض؛ (دَمج الميول والرغبات)  إنَّهُ لِهذا السَّبب تحْديداً يُنْهى عن الإتّصال الجِنْسِيّ غير المَشْروع في مُعْظَمِ الأديان، حَتَّى وإن لم توَضِّح الأديان التَّقليدِيَّة ذلك. إنَّ لِإندماجٍ كَاندِماج (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة)، لا سيما عندما تَتَعَدَّد الإتّصالات غير الشّرْعِيَّة، عواقِب كارِثِيَّة. فقد يُؤَدّي ذلك الأمر إلى أن تكون سَيَّالات الأفراد مُتَّصِلَة بعضها ببعض لِتَقَمُّصاتٍ عَديدة مُقْبِلة، الأمر الذي يؤدّي إلى إعاقة تَقَدُّمِهِم نحو العوالِمِ العُلْوِيَّة. في مَرْحَلة ما من الوقت قد يكون لهم دور زوجٍ وزوجَة؛ وفي حياة أُخْرى أُبٌ وإبنة، أب وإبن، أُم وإبن، أُمُّ وإبْنَة، أخٍ وأَخيهِ، أخ وأُخْتهِ ، أو ايَّة علاقَةٍ اُخْرى.

 

وإذا لم يَتِمَّ العَمَل على الإبتعاد عن ذلك (التَّصَنُّع الجنسيّ) فإنَّ عاقِبة اندِماج (مجموعة 2 سَيَّالات روحِيَّة) هي ولادة طِفْلٍ يكون امْتِداداً للشَّخْصَينِ مَعاً. تُوَفّر (مجموعة 1 سَيَّالات أرْضِيَّة) الهنْدَسَة المَطْلوبة للخَلِيَّة والعضو، وهذا يَتَوَقَّف على البِناء (الصِّفات الجيِنِيّة “الجسدية” للرَجُلِ والمَرأة). قد يَحْمَل الطّفْل أيّ مَرَض جَسَدِيٍّ موجود عند والِديهِ، وعلى سَبيل المِثال، إذا كان أحَدُ الوالِدين يُعانِي من السُّكَّرِي، فستَكون هناك فَرصة جَيّدة لكي يُصاب الطّفْل بالسُّكَّرِي بعد بعضِ الوَقْت. وبالإضافة إلى هذا فإنَّ سَيَّالات المجموعة 1 التي لَدى الوالِدين قد لا تكون مُتوافِقة مع بعضها البعض الأمر الذي قد يأتي بِطِفْلٍ مُتَخَلّفٍ أو مُشَوَّه. تَحْدُثُ حالة كهذه عندما يكون الوالدين والإبن مُسْتَحِقَيْن أن يكونان في هذا الوضع لأسباب مُتَعَلّقة بِالعَدالة الرُّوحِيَّة. إن (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) تُحَدّد سِمات الطّفل (النفسية؛ الميول والرغبات والنزعات). ولِأنَّ سَيَّالات المجموعة 2 قد انْدَمَجَت لِتُكَوّن الطّفْل، فإنَّ الطّفل سيحمِل بعض الصّفات (السّيَّالات الرُّوحِيَّة) التي للوالِدين. وعلى سَبيل المِثال،  قد يَصِل الجَشَع والولاء إلى الطّفْل من الأب، ثُمَّ الحَسَد والغيرة من الأم، والعَكس صحيح، وقد يَحْدُث أي مَزيج آخَر. أما سَمِعْت بِالمَثَل الشَّائع القائل: ”  الأمر يَسْرِي في العائلة؟” وبطَبيعَةِ الحال، فإنَّ الأُمور هي أكثَر تَعْقيداً من هذه النَّظرة التَّبْسيطيَّة العامَّة. لأن الطَّفل يُظهِر سيَّالات المجموعة 2 مِنْ نَفْسَين، كما أنَّهُ يُعَزّز الصّفات العُلْيا، فإنَّ الطّفْل يُرَقّي سَيَّالات المجموعة 2  لِكِلا النَّفسَين. وبِالمِثل فإنْ عَزّز الطّفْل الصّفات السُّفْلِيَّة، فإنَّ الطّفْل سَيُسَفِّل سيَّالات المجموعة 2 الرُّوحِيَّة لِكِلا النَّفْسَيْن. من وجهةِ النَّظَرِ هذه، فإنّهُ على المُتَزَوّجين التَّفْكير في هذهِ المَسْألَةِ مَلِيَّاً قَبْل أن يُقَرّروا إنجاب طِفْلٍ إلى هذا العالَم. كُلَّما زادت الرَّوابِط (الأطفال) لِسَيَّالاتنا الرُّوحِيَّة، كُلَّما زادت خُطورَة تدهور سيَالات المجموعة 2 الرُّوحِيَّة.

 

في حالَةِ الزَّواج بين افْراد الأُسْرة، كما هي الحال مع أَخ وأُخْت، فإنَّ سيَّالات مجموعة 2 الرُّوحِيَّة لهما هي امْتِداد للنَّفْسَيْن. (مجموعة 1 – سيالات روحِيَّة أرْضِيَّة) تَكْشِف مِثل هكذا عِلاقة، فتكون النَّتيجة طِفْل مُشَوَّه خُلُقِيَّاً. وبِعِبارَةٍ أُخْرى، ولِسَبب غير مَعْلومٍ لَدينا، فإنَّ دَمْجَ سيَّالات المجموعة 2 الرُّوحِيَّة لِجيلٍ ثانٍ لأيّ نَفْسَيْنِ (مُتَماثِلَتيْن تماماً) هو مَمْنوع. هذا الأمر مُنْعَكِس بِشَكْلٍ واضِحٍ في جميع الأدْيانِ الرَّئيسيَّة.