الفَصْلُ الأوَّل (أن تكون أو لا تَكون)

المُقَدِّمة

بقَلَم يوسف ق. سلامة

يُطْلِعنا الأخ العزيز مُنير مراد على أَحدَ أعظَم أبْدع وأَروعِ ما خَطَّهُ قَلم عن تعالِيم الرَّسالة الدَّاهِشِيَّة.

كتب فيه من الخِبْرَة الرُّوحِيَّة والبَشَرِيَّة ما يُغْني عن كتب كثيرة. فيهِ الحِكمة والتَّجْرِبة والغَوص في أهم ما جاءَت بهِ الرَّسالة السَّماوِيَّة.

وَبِحَسَبِ هذه التَّعاليم المُبارَكة نراه يَعْرِض لنا تكوين الخَليقة بِحَسَب ما جاء في كُتُبِ الأديان السَّماوِيَّة، مُعَزِّزاً إيَّاها بلوحات أحد أعْظَم فَنَّانِيّ القَرْن التَّاسِع عَشَر هو الفنان الكبير توماس كول (Thomas Cole) (1801- 1848 ) حيث يأخذنا خطوة خطوة عبر مراحِل الحياة من الطُّفولة إلى الشَّيخوخة، ثُمّ يَشْفعها بِصُوَرٍ كأنَّها من إلهام ، مُجَسِّدة هذه المراحِل حتَّى أنها تَجعل المُطَّلِع عليها يعيشها ويلمس اخْتِبارها لَمْس اليَد.

نَجِد أيضاً أن الدكتور داهِش نَفْسَه كان مُشيداً بِما رَسَمهُ هذا الفَنَّان العظيم من مَعانٍ يَشهد لها فنَّانو العالم بِأسْرِهِم.

 

يَبْدأ الأخ مُنير مراد بِسَرْد روحِيّ عِلْمِي عن نُشوء الكون، ثُم يُقْرِئنا أهم اخْتِباراته الحياتِيَّة حَتَّى يَصِل بِنا في رِحْلَتِهِ العَظيمة إلى أهم المواضيع التي يَسْعى وراءها كُل عالم وكل ساعٍ في إثْر العلوم الرُّوحِيَّة التي هي أساس كل عِلْم بَشَرِيّ، ألا وهي السَّيَّالات الرُّوحِيَّة.

 

نراه يُفَصِّلُ بِدِقَّةِ الخبير السيَّالات الرُّوحِيَّة لِتأتي في قِسْمَيْن أو مَجْموعَتَيْن، وما ذلك إلَّا ليأخذنا خطوة خطوة إلى ذلك العالَم العَظيم.

عالَم المَحبَّة والأخوة والسَّلام الذي تدعو إليه الدّيانات السَّماوِيَّة قاطِبة؛ فَلا سَبيل لِبلوغ درجات الفردوس العُلْوِيَّة إلا بالمَحِبَّة والعَمل والإسْتِشهاد في سبيلِها إذا اقْتَضى الأمر. فالحياة لا تأتي إلَّا بالعَمل المُثابر بتَطبيق كُل وصايا الله تعالى.

أخي القارِئ العَزيز، لا يمكن سَبْر غور عالَم الرُّوح ما لم يكن الإنسان مُهَيَّئاً لذلك، لكن بِرَغْمِ ذلك، عِلَيْهِ أنْ يَسْعى وَيَجِدَّ في طَلَبِ ذلك، ورِحْلَة الألف ميل تَبْدأ بِخطوة واِحِدة. إذن عَلينا التَّمعن جَيِدَّاً فيما نقْرأه ثُم سؤال من هم على درايةٍ بهذه الأمور.

 

ودون شَك، سيكون هذه الكتاب مَرْجعاً أساسيَّاً في الرِّسالة الدَّاهِشيَّة يرْجِع إليه كل من تتوق نَفْسهُ لِدخول هذا العالَم الجَديد.

 

والله المُوَفِق.

 

أن تكون أو لا تَكون

 

كانت مجموعة من النَّاس تُسافِر جوَّاً من مدينة إلى أخرى، وعند اقترابهم من وجهتهم، طرأ خَلَلٌ على عجلات الهبوط فَحالَ دون نزولها. وبعد محاولات عديدة لِتَشْغيلها أَعْلَن الطَّيَّار للرُّكَّاب بأنهُ سيقوم بِمحاولة الهبوط الإضطراري، ثُمَّ أعْلن للركاب ضرورة الجلوس بِوضْعِيَّة (الحماية من الإصطِدام). إنَّ علامات العَجْز والتَّوَتُّر بادية على جميع الرُّكَّاب. فلا يمكن لأحَدٍ أن يَلومهُم، إذ في لَحظات سيكونون على موعد لِمواجهة مع”الموت” غيرَ المُقَدَّرٍ و السابِقٍ لأوانِهِ. أجهش بعضهم في البُكاء ضارِعين إلى الرَّب، إلى الله تعالى، يسوع المسيح، بوذا، العذراء مريَم، القِديسين، وغيرهم من أجل هبوطٍ آمِن. لِمَ لا، فإذا نجوا، ستكون صَلَواتهُم قد أَجْدَتْ نَفْعاً، لكن إن لَم تُجْدِ نَفْعاً فسيكونون على استعْدادٍ للإلقاء “بِصانِعِهِم.”

لِأولئك الرّكاب المُلْحِدين، لحظة العَدَم قد حانت. إلا أن فِكراً خاْطِفاً يومِض في أذهانِهِم: “ماذا لو كان الله موجوداً؟” ماذا لو كُنْتُ مُخْطِئاً؟ ماذا سيكون مَصيري؟

وتأخُذ مكان هذه الفِكرة فكرة خاطِفة اُخْرى: ” لا، أَوقِفْ هذا الهُرَّاء، إن المَدْرَج مُجَهّزٌ الآن من أجْلِ حالة التَّحَطُّم، وأنَّ الطيَّار يحاوِلُ الهبوط.

وبعد بِضعة ارتطامات قاسية، واهْتِزازات، وأصوات مُدَويَّة، تتوَقَّف الطَّائرة، ويتِمَّ فتح أبواب الطَّوارئ، وإذا بكُلّ الرُّكَّاب بِخير. وفي تلك اللحظة تَظهَر ابتِسامات واهية على كُلّ وَجه- مازالوا مصدومين بهكذا اخْتِبار. ينظر بعض الرُّكاب لآخرين قائلين: “حمداً لله إنَّنا أحياء”.

لماذا نتمَسَّك بالحياة بِقوَّة مقاومين خسارتها ؟ هل هو الخوف من المجهول؟ لِماذا لا نُفَكّر يوميَّاً بما يُمْكِن أن يحْدُث لنا بعد موتنا؟ هل علينا الخَوض في سيناريو شَبيه بذلك المُدَوَّن أعْلاه قبل أن نبدأ بالتَّفكير حَولَ الأمر؟ إن أولئك الذين يَفَكّرون ويتَحَدَّثون مِنَّا عن هذا الموضوع، يقوم آخرون بانتِقادِهِم على أنَّهُم ذَوو وِجْهة نَظَر سَلْبيَّة، وبأنَّهُم مَهْووسُون أو مُكْتَئبون أو أنَّهُم يُعانون مِنْ أَمْراضٍ نَفْسِيَّة. والآن وإذْ نحنُ على وَشَك الدُّخولِ في القَرن الواحِد والعِشْرين، هل ما زالت المُعِدَّات والأشياء الماديَّة التي جاءت بالتَّطوَّرِ العِلمِيّ تتمَلَّكنا بحيث نَسينا الأمْر الرُّوحِيّ؟ كم مِنَّا يُعْمِل التَّفكير في حياتنا اليوميَّة؟ كيف نُحَدّد الحياة؟ هَل نحنُ موجودون حَقَّاً؟ هل كل ما نَراهُ في الحياة حَقيقيّ؟ ينبغي على الجنس البشريّ معالجة هذه والعديد من الأسْئلَة الأُخْرى على نحوٍ مُنْتَظَم.

ما هو الواقِع؟ هل يوجد شيء كواقِعٍ مُطْلَق؟ أم أنَّها أيضاً مُجَرَّد وجْهَة نظر؟ ليس الغَرَض من هذا الكتاب دراسة النَّظريات التاريخيَّة للواقِع والحاضِر، لكن من الأهَميَّة بِمكان أن يَتِمَّ ذِكْرها باخْتِصار، عَلّ القارِئ المهْتَمّ يُجْري عليها بَحْثاً في وقت لاحِق.

إنَّ دِراسَةِ الوجود ينتمي إلى فَرْعٍ من الميتافيزيقيا يُدْعى الأنطولوجيا. هناك ثلاث نظرِيَّات فَلْسَفِيَّة عن الواقِع: الوحْدَويَّة، وَالثُّنائيَّة، والتَعَدُدِيَّة. إن الوحْدَويَّة” المُشْتَقَّة من الكلمة اليونانيَّة “أُحاديّ” تقول باخْتزال العالَم في حَقيقة واحِدة. تنقسِم  ” الوحْدويَّة” إلى ثلاث مدارِس في الفِكر” الماديَّة والمثاليَّة والحيادِيَّة. تَنُصُّ الماديَّة بأنَّ الحقيقة الوحيدة في الحياة هي التي “للمادَّة” وبأنَّهُ يمكن خَفْض كل ما في الوجود إلى عناصِر ماديَّة.

تنُصُّ “المثاليَّة” بأنَّ العَقْل هو الحقيقة الوحيدة وأنَّ كُلّ ما في الوجود هو “تَصَوُّر” (أي أنَّ الكون غير موجود خارِج حدود ما يَتَخيَّلهُ العَقْل).

تَنُصُّ “الحياديَّة” بأنَّ الواقِع هو أمْرٌ آخَر- إنَّ كِلا العَقْل والمادَّة هُما مَظاهِرٌ لها.

تَنُصُّ الثُّنائيَّة على وجود حقيقَتين اثنتين، العقل والمادَّة؛ أيْ أن حقيقة المادَّة مُنْجَليَّةٌ بالعالَم الآليّ (الميكانيكي)، وأن العقل منجَلٍ في “النَّفْس”- غير الماديّة والخالِدة.

وتَنُصُّ التَّعَدُّدِيَّة بِأنَّه لا يُمْكِن ببساطَة تخفيض الحقيقة إلى العقل أو إلى المادَّة، أو إلى العقل والمادَّة (مَعاً) بل أنَّها مُنْجَليَّة في عديد من المظاهِر المُخْتَلِفة، ومن بينها العقل والمادَّة وهاتان اثنتان منهُما فقط.

والآن اسْمَح لي أن أسألكَ التَّأمُّلِ في الحياة لِبَعْضِ الوقت، ثٌمَّ اسمَحْ لي أن أطْرَحَ عليك  السُّؤال التَّالي: هل أنت موجود؟ من المُرَجَّح أن تُجيب: “يا لهُ من سُؤالٍ سَخيف. بالطَّبع أنا موجود. أستطيع أن أراك وتسْتَطيع أن تَراني. إذا أنا قَرَصْتُ نفسي سأشْعُر بألَمٍ، وإذا جَرَحْتُ نَفْسي سَأنْزِف. إذا طَعَنْتُ نفسي سَأُقْتَلْ. وبجانِب الألم، يُمْكِنني أن أشْعُر بالحُب، يمكنني السّباحة، الضَّحِك، الغِناء، تَسَلُّق الجَبَل، قيادة السَّيَّارَة، الذَّهاب إلى الكُليَّة، أن أصيب شَخْص ما، أن أتَزَوَّج، والجِنس، والإنخِراط في حوارٍ فِكْرِيّ. إذَن أنا موجود”. قد يكون هذا الجواب مَنْطِقيَّاً، وأَنَّك على أتَمّ صَواب، لكن ما كُنْتَ قد بَدأتَهُ كَدَليلٍ على صِحَّةِ وجودك قد لا يكون جواباً فيه الإمتياز.

اسمح لي أن اُوَضّح هذه المسألة: في بعض الأحيان قد تواجه الألم والحُبّ؛ تَرى الأشياء، والأشخاص، والأماكِن؛ أنت تمشي، تُفَكّر، تَلْعَب، تَصْرُخ، تضحك، تُغَنّي، تصعد جبلاً، تَسْبَح، تذهب إلى الكُليَّة، تُصيب شخصاً ما، تتزَوَّج، الجِنْس، تقود سيارة، طائرة، أو تقودُ قارِباً، تُشارِك في مناقشات فِكريَّة. أنت “موجود” ولا أحد يمكنهُ إقناعك بِخلاف ذلك، ولكن وعلى حينِ غُرَّةٍ يُقْرَع جرس المُنَبّه، تُمدّ يدك لإيقافه، والآن أنت مُسْتَيْقِظ، الآن أنت مستيقِظٌ حَقَّاً. عفواً! اعتَقَدْتُ أنك كُنْتَ موجوداً، في الوقت الذي واجهت فيه الأمور  المَذْكورة سابِقاً. من الواضِحِ أنَّهُ مُجَرَّدَ حُلْمٍ كان في الحَقيقة امْتِداداً لوجودِكَ الحاليّ! حسناً، أسَلّم بأنَّهُ كان مُجَرَّدُ حُلْمٍ، وأنَّكَ عُدْتَ إلى “واقِعِ الحَياة”، لكن ماذا لو كان هُناكَ ساعة مُنَبّهٍ على وشكِ أن تنفَجِر وأن توقِظكَ إلى “الوجود الحَقيقيّ”. هل وصَلَتْكَ الآن؟ ما يُنْظَر إليه على أنَّه حقيقة قد لا يكون حقيقيَّاً على الإطلاق.الحُلْمُ الذي ذَكَرْناهُ لِلتَّو هو حقيقيٌّ لَكَ فَقَط ويُشَكّلُ جُزْءاً من واقِعِكَ. وبالرَّغم من ظهور هذا الواقِع مختلفاً من شخص لآخر إلا أنه توجد حقيقة تشمل الكون بأسْرِه، وهذا هو الواقِع الذي يهمنّا. إنَّ حياتنا كُلها أشْبَهُ بِحُلْم حيث ينتظر كل واحد منا منبّهاً ما كيما ينفَجِر، لكي يستيقِظ، ليُحْضِرنا وجهاً لِوجْهٍ مع حقيقة وجودنا.

وقد ناقَشَ الدكتور داهِش هذا الأمر مَرَّةً بِقولهِ: “إن الناس نيامٌ، وأَنَّهُم في لحظة موتهم يسْتَفيقون.”

أهلاً وسَهلاً بالعالَمِ المُتَعَدّد الحقائق. والآن اسمحوا لي أن أسْألكم نفس السُّؤال: هل أنت موجود؟ كيف سَتُجيب على هذا السُّؤال؟ هل سُتجيب بنفس الطريقة السَّابِقة عينها؟ هل ستحاول إيجاد طريقة أُخرى لإثبات حقيقة وجودك؟ أم هل سبَّبْتُ لك حيْرَةً لكي تقول: “لستُ متأكّداً ما إذا أنا موجود أم لا”.

إذا كان الوجود النّسْبِيّ لكل واحِدٍ مِنَّا ليس سِوى حُلماً مُنْتَمٍ إلى وجود آخَر ذي واقِعٍ مُخْتَلِفٍ، فكيف لَنا أن نَعْرِف بأن الوجود في ذلك العالَم المُخْتَلِف هو الوجود الحَقيقيّ وأنَّهُ، بِدورهِ، ليس حُلْماً ينتمي إلى واقِعٍ آخَر ؟

الآن رُبَّما تعْتِقد بأنني مجنون، وبأنني فَقَدْتُ السَّيْطَرة على قواي العَقْلِيَّة، وبأنّني أنتمي إلى مَصَحّ عَقليّ. الأمر الذي يستدعي سؤالاً آخر: من هو العاقِل؟ هل هو كُلُّ من يكون خارِج المَصَحّ العَقْلِيّ؟ أم هو كُلُّ من يكون في داخِلِهِ؟ إنَّهُ سؤالٌ نِسْبِيّ. إنَّ كُلّ من هو بداخِل المَصَحّ العَقْلِيّ يظن أنَّه بصِحة سليمة وعاقِل وبأنَّ كل الآخرين على خِلاف ذلك، في حين أننا نرى أنفسنا عاديين وعاقِلين وأنهم في نظرنا مجانين.

 

من هوعلى حَق؟ دعونا لا ننسى ما علَّمنا إياه التاريخ عن قضيَّة غاليليو غاليليي (1564-1642) في مُجادَلَتِهِ أنَّه ينبغي أخْذ العِلم والدّين على أَّنَّهُما حقيقتان لا يُناقِض أحدهما الآخر. عندما قال أنه يؤيّد وجهة النَّظَر القائلة بأنَّ الشمس مسْتَقِرَّة وبأن الأرض والكواكب الأخْرى تدور حولها، تم اعتباره من قبل الكنيسة أنه منافِقٌ ومجنون. تمَّ اعْتقالهُ مدى الحياة ثُمَّ أُجْبِرَ على التَّخَلّي عن مُعْتَقَدِهِ.

 

ويَبْقى السُّؤال: هل الحياة التي نعرِفها هي (الحقيقة المُطْلَقة)؟  قبلَ أن تجيب على هذا السُّؤال، إسْمْحْ لي من فضلك أن أعْرِضَ هذا السّيناريو: إذا عُدنا في الوقت إلى ساعات قليلة قبل نزول “كريستوفر كولومبُس” في ال” وست إنديز”، فبالنّسْبة إلى السُّكان الأصليين، كل ما رأوه أمامهم هو عالمهم وواقعهم. فلا احتمالٍ إلى وجود ما خَلْفَ المياه. المياه لا محدودة، والأرض مُسَطَّحة. إذا بقوا معزولين، فسيستغرق الأمر منهم مئات بل آلاف السَّنوات ليُقَرروا أن الأرض غير مُسَطَّحة، ولِيَتَمَكَّنوا من بِناء مركب شِراعيّ قويّ يسمح لهم بالمجازَفة وَ سَبْرَ غور المجهول في المياه التي (يَفْتَرِضون) أنْ تكون بلا نهاية. وطالَما أنَّ حقيقتهُم لا تتشابِك مع الآخرين فسَيظَلُّون مُقْتَنِعينَ بأنَّه لا وجود لأيَّة حقيقة أُخرى. فعندما تشابكت حقيقتهم مع حقيقة الأروبيين عند نزول “كولومبوس” اختَبَروا انتكاسة كبيرة لِما كانوا يَعْتَقِدونه. فباتوا (في تلك اللحظة) في حالة من الإرتباك. أن كُلَّ ما كانوا يعتقدون به عن الوجود قد ذهَبَ هباءً. وعلى النَّحو نفسه، قد نكون عائشين في واقِع قد يذهب هباءً إذا ما اصطدم بِواقِعٍ آخر. لكن ماذا يمكن أن تكون هذه الحقيقة؟ إن الحقيقة التي أتَحَدَّثُ عنها هي الحقيقة المُطْلَقة لا أيَّة حقيقة نِسبيَّة اُخْرى. إنَّها صَعْبَة الفهم وبعيدة عَمَّا يُمْكِن أن نَتَصَوَّرهُ. إن واقعنا مُماثل لقِصَّة خرافيَّة تُقال لِطِفل في الثَّالِثة من عُمْرِهِ. يستوعِب الطّفل أو الطّفلة القِصَّة الخُرافية ويقبلها في عقله/ا على أنَّها حقيقة، ولا يُمكن أحد إقناعه/ا بغير ذلك. قد يَحْتَجّ البعض قائلين: “هل نحن جَهَلَة إلى هذا الحَدّ حَتَّى أنَّنا غير قادِرين على التَّمييز بين ما هو حقيقي وما هو خِلاف ذلك؟ إن في قولك هذا إهانة لِذكائنا”. أقول لهؤلاء النَّاس، انظروا إلى الأمر كيفما شِئتم، أكان في شكلهِ أَمْ في هيئتهِ، ولكن من وجهة نظري نحن في مستوى رياض الأطفال عندما يتعَلَّق الأمر بِفهم الحقيقة المُطْلَقَة. إن ما نُعايِنُهُ لَهُوَ نُسْخة ضَيّقة ومُمَوَّهة عن الحقيقية المُطلَقَة. عندما يَسأل الطّفل كيف تولَد الأطفال، يقوم أولياء الأمور، بِصَبرٍ، بإخبارِهِ عن قِصَّة الطُّيور والنَّحْل.

نحن لدينا نُسْخة الطيور والنَّحل عن “الحقيقة”.

فكيف نَقْتَرِب إذن من فهم “الحقيقة المطلَقة” ؟ هل يُمْكِننا تَلَمُّسها مِن خلال العِلم؟ لا يمكن للعِلم إلا تفسير الواقِع الفِعْليّ (المادّي) للحياة، وهو ليس بمكان لِسَبْر غور عالَمِ الحَقيقة الرُّوحيَّة.

هل ينبغي أن نقضي ردْحاً طويلاً من عمرنا في التأمُّل على أمَلِ سُطوعِ شيئاً من النُّور ليُبَيّن لنا الطَّريق؟ أو أن شيئاً ما سَيُصيبنا على رأسِنا ويجعلنا نقول: ” وَجَدْتُها”. ماذا عن الدّين؟ أليس من المنطقي الإقتراب من الحقيقة المُطلقة من خلال دراسة مُفَصَّلَة في الكُتُب المُقَدَّسة؟ أعْتَقِدُ ذلك، لكن إلى حَدّ ما فقط، لأن الرَّسائل في الكتب المُقَدَّسة، في بعض الحالات، تَبْسيطِيَّة للغاية، وهي مَعْنيَّة بمن عاشوا قبل 1.4 ألف من السّنين. وفي حالات أُخرى، نجد أن هناك غموضاً في الكتب المُقَدَّسة، كما أن بعض المقاطِع لا تَعْني شيئاً بالنّسبة لِشخص قرأها في القَرْنِ العِشرين. وفيما يلي توضيح لهذه النُّقطة:

بحسب العهد القديم، خَلَقَ الله الكون، بما فيه آدَم وحَوَّاء في سِتَّة أيَّام ثمَّ اسْتَراح في اليوم السَّابِع. فإذا تَبِعْتَ التَّسَلْسُل الزَّمَنيّ في التَّوراة من آدم إلى هذا اليوم، لَقَدَّرْتَ حصول الخَلق منذ 6000 سنة. و هذا مخالِف لِما تَوَصَّلت إليه الإكتشافات العلميَّة. إن الأحافير العائدة للمخلوقات ذات الأجسام الصَّلبة يعود عمرها إلى 700،000،000 ، سبعمائة مليون سَنة. وقد نَجِد في نهاية المَطاف أحافير أقدم للمخلوقات ذوات الأجسام الصَّلبة على الأرض. إن عُمْرَ خَليَّة واحِدة لِبقايا “جزئيَّات الأحافير”

يعود إلى ما 3,500,000,000 أي (3.5 بليون) سنة.

وباسْتِخدام “النَّظائر المُشِعَّة”، يُقَدَّر أن الأرض كانت موجودة منذ 4،550،000،000

(4.55 بلايين ) سنة.

هل الكتاب المُقَدَّس على خطأ؟ قبل أن اُحاوِل الإجابة على هذا السُّؤال، لا بُد من معالَجة عِدَّة قضايا.

 

من أين جاءت الحياة

 

هناك علماء تعتقِد بِأنَّ الحياة على الأرض ورُبَّما في أماكِن اُخرى من الكون يُمْكِن أن تكون قد تكوَّنَت من تِلْقاءِ نَفْسِها؛ بالصُّدْفَة، وأنَّه لم يكن هناك خالِق و تدبير (هندَسة) مُسْبَقة.

ثَمَّة تجارِب مُخْتَبَريَّة قد أُجْرِيَت على أمَل إنتاجِ خَليَّة حَيَّة، الوِحْدة الأساسيَّة في الحياة. وفي هذه الإخْتِبارات، تَمَّ اسْتنساخ ظُروفاً شبيهة بِحادِثة تكوين الأرض التي جرت منذ 3.5 بليون سَنَة، وبالإستعانة بالشَّرارات الالكترونيَّة وعوامِل أُخْرى، تَمَّ إنتاج أحماض أمينيَّة وبروتينات. إلا أن كل الإختبارات فَشَلت في إنتاج خَليَّة حَيَّة واحِدة.

 

من الوجهة النظريَّة العِلْميَّة، كل ما في الوجود ينبغي أن تكون له بِداية ما. لا تظهَر الأشياء من العَدَم. إذا حاولنا تَعَقُّب مَصْدَرَها فلا بُدّ من الوصول إلى طريق مَسْدود.

على سبيل المِثال، إذا قُلنا أَنّ السَّماء تُمْطِر، فَنَحْنُ نَعْني أنَّ البخار الصَّاعِد من سَطْحِ الأرض يُسَبّب تَشَكُّل قَدْراً مُعَيّناً من الرُّطوبة في الجَوّ. تُحْمَل هذه الرُّطوبة بتيَّارات هوائيَّة إلى أن تَصْطَدِم بِجَبْهَهٍ بارِدة، الأمر الذي يُسَبّب تَكثيفها لِتَعود إلى الأرض على شَكل “مَطَر”.

 

هذه الدَّورة تَتَكَرَّر إلى ما لا نِهاية طالما تَوَفَّرت الظُّروف المُناسِبة. السُّؤال هو هذا: كيف جاءت المياه إلى الوجود؟ ما الذي جاء أوَّلاً، هل الرُّطوبة التي تَكَثَّفَت في الجو أم المياه التي تَبَخَّرَت من البِحار والمُحيطات؟ بِغَضّ النَّظر عن إجابتنا عَن إحْداها، إلا أنَّهُ من خَلَقَها؟

إذا كُنَّا نَتَحَدَّث عن طِفْلٍ حديث الوِلادة، فإننا، وبشكل غير مُباشَر، نَتَحَدَّث عن المُنْتَج من البويضة والحيوان المَنَوِي (Sperms). السُّؤال هو هذا: (كيف تكوَّنت) البويضة والحيوان المنوي الأوَّل؟ هل كانا نتيجة تفاعُل كيميائيّ ما؟ إذا كان كذلك، ما هي العناصِر المُشْتَركة في ذلك؟ ما هي القِوى الخارِجيَّة المُسَلَّطَة؟ ومن خَلَقَ هذه العَناصِر؟ حَتَّى وإن تَمَكَنَّا من اكتِشاف مصْدرها، كيف جاء الإنسان الأوَّل دون أن يَتَصَوَّر في الرَّحْم؟ أيَّهما جاءَ أوَّلاً الطّفْل أم البَيْضَة؟ إذا قُلْنا أَنّها البيضة، فمن كَوَّنها؟ إذا قُلنا الطّفل، فَمَن كَوَّنهُ؟ وبالمِثْل، تَدَّعي نَظريات أُخْرى بأنَّ الحياة على الأرض قد جاءت  من أجزاء أُخرى في الكون بواسطة نيازك أو شظايا مُذَنَّبات.

حَتَّى لو كانت هذه النَّظَرِيَّات صَحيحة ، كيف وجدت الحياة على متن نيزَكٍ أو مُذَنَّب؟ كيف حافَظت على وجود الحياة فيها مع دخولها في الغِلاف الجَويّ الأرْضِيّ؟ من أين جاءَت؟ كيف تمَكَّنَتْ حياة كهذه من إنتاج تراكيب مُعَقَّدة لِمخلوقات حيَّة على الأرْض ؟

كم من الوقت اسْتَغْرَقَ إنشاء الكون؟

 

عندما قيل لَنا أن الكون تَمَّ إنشاءهُ في سِتَّة أيَّام، هل نتكلَّم عن أيَّام أرْضَيَّة؟ تَذَكَّر أنَّ كُلّ يوم أرْضِيّ يُمَثّل دوران الأرض في 360 درجة . فَبِحُكْمِ التَّعْريف، الأرض وسائر الكواكِب الأخْرى الشّمسيَّة تدور حول الشَّمس مَرَّة في السَّنَة؛ إن السَّنَةِ الأرْضية أطْول من السَّنة على كوكب عُطارَد وعلى حَدّ كبير أقصر من تلك التي لِلْمُشْتَرى أو زُحَل.

الشَّمس تدور حول مَجَرَّةِ دَرْبِ التَّبَّانة مَرَّةً كُل 230 مليون سَنة أرْضِيَّة (سَنة شَمْسيَّة واحِدة).

كما تَرَون، إنَّهُ قياسٌ نِسْبِيّ. وبِدون مَزيد من التَّوضيح من خلال مرجع مُحَدد عن إنشاء الكون في سِتَّة أيَّام، لن يكون لدينا فِكرة عن مدى “طول اليوم” الذي يُمَثّلهُ اليوم الواحِد لله تعالى.

 

ما هو مَصْدَرُ الشَّرّ؟

 

“وأنْبَتَ الرَّبُ الإله مِن الأرْض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكْل.وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر”- (التكوين 2:9  ) هذا يُبَيّن بوضوح أن الشَّر كان موجوداً قبل سُقوط آدَم وحَوَّاء. إذا كان الله هو “الصَّالِح” والخالِق الوحيد، فَلِماذا جاء الشَّر إلى الوجود؟ لِماذا لم يَذْكُر سِفر التَّكوين أيّ شَيء عنهُ؟ إن بَعْضَ النَّظِريَّات تقْتَرِح أنَّ الشَّر قد وجِد بعدما تَمَرَّدَت مجموعة من الملائكة على الله تعالى فانقَلبَت من مخلوقات صالِحة إلى شِرّيرة. في الواقِع لا أحد يَعْرِف.

إذا كان آدَم قد خُلِقَ بِقُوَّةِ الصَّلاحِ المُطْلَق، فَلِماذا كان من الضَّرورة اخْتِبار صلاح آدَم؟ ماذا يعْني هذا؟ ما هي النَّتائج المُتَرَتّبة على اخْتيار الشَّر؟ بالنّسْبَةِ إلى الكِتاب المُقَدَّس: ”  وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا” (تكوين3:3)

إذن، لو لم يأكل آدم وحوَّاء من هذه الشَّجرة، لَكانا سَيَعيشان إلى الأبَد. بَل لأنَّهما أكلا الثَّمرة حُكِمَ عليهما بالموت.

” بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ” (تكوين 3: 19)

هل كانت حَقّاً حية التي أغْوَت حَوَّاء؟ هل تحادَث آدم وحَوَّاء مع الحيوانات، أم كانت الحيَّة رَمْزاً آخَر للشَّيطان؟

 

هل كانت الثمرة المُحَرَّمة مُجَرَّد ثمَرة؟

 

وِفْقاً لِجميع الكُتُب المُقَدَّسة، الله تعالى كُلّي الرَّحْمة. واسْتِناداً إلى خاصِيَّتِهِ هذه، ألا يبدو غريباً لك، حُكْم الله تعالى بالموت على آدَمَ وحَوَّاء لتناولهما الثَّمَرة المُحَرَّمة؟ أم أن هذه الثَّمرة هي رمزٌ لأمر آخر، كالجِنْس؟ وإلَّا لِماذا شعروا بالخجَل لِكونهِم عُراة بعد تناولهم  هذه “الثَّمَرة المُحَرَّمة” واسْتعمالهم أوراق شَّجرة لِتَغْطية جَسَديهما؟ ألا يُمْكِن أن يكون الإمتناع عن الجِنْس هو أحَد الإخْتِبارات الأساسيَّة التي كان على آدم وحوَّاء اجتيازها في حياَتهما، ثُمَّ فَشِلا؟

 

كيف مَلأ نسْل آدم وحَوَّاء الأرْض

 

هل حَقَّاً كان آدم وحوَّاء أوَّل المخلوقات البشَريَّة على الأرض؟ أم أنهما تواجَدا مع مخلوقات بَشَريَّة أُخرى؟

عندما طُرِدَ آدم وحوَّاء من جنَّة عدن كان لديهما إبنان، قايين وهابيل.

عندما قَتَل قايين هابيل،… ”  فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ. وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ” (تكوين 4: 15)

من كان هناك إلى جانِب آدم وحَوَّاء ليقْتُلَهُ؟ كان آدم في عامِهِ ال 130 عندما ولد ابنه، شيث.

لكن من أين جاءت امرأة قايين؟ وأيضاً، لماذا كان قايين يقوم بِبِناءِ مدينة؟ ما كان، عدد، سُكَّان الأرض الذي يُبَرّر بِناء مدينة؟

وهُنا مقطع آخَر:  “كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذلِكَ أَيْضًا إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَدًا، هؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ” (تكوين 4:6)

من هُم هؤلاء العَمالِقة؟ إذا كانت ذُرِيَّة الذُّكور من نسل آدم قد عُرِفَت باسم “أولاد الله”، فلماذا عُرفت البنات باسم “بنات النَّاس”؟ هذا إلَّا إذا لَم يَكُنَّ من نسْل آدم.

كل المُؤشَّرات تقودني للإيمان بأنَّ الأرض كانت مأهولة من البَشَر حينما طُرِد آدم وحَوَّاء من جَنَّة عدن.

 

هذا يُعيدني إلى السُّؤال المَطروح في وقتٍ سابِق: ” هل الكتاب المقدَّس على خطأ أم أن بياناتنا العِلْمِيَّة على خطأ؟ أعْتِقِدُ أن كِلاهُما على صَواب.

 

اللاهوتيون على صواب في القول أن آدم عاش وأنجب ذُرِيَّته الأولى قبل 10000 عاماً. إلا أنهم على خطأ في رَبْطِ وجودهِ ببداية الحياة على الأرض. إن الأدلَّة العلميَّة المتَوفَّرة لنا اليوم لَهِيَ دامِغة وغير قابِلة للدَّحض.

لقد مَرَّت الأرض ببلايين السّنين من التَّطوُّر مُعَزِّزَةً دائماً مَظْهَراً ما من الحياة. وبما أنَّهُ ليس بالإمكان استِدعاء العِلم لِتَقديم الإجابات، وأننا لا نستطيع الإعْتماد على الكتب المقدَّسة لتقديم إجابات واضِحة، إذن هل يَكْمُن خيارنا الوحيد باللجوء إلى مجال الميتافيزيقيا؟

إنه بِمُجَرَّد أن نبدأ النَّبْش في مجال الميتيافيزيقا، سَنُقابِل العديد من نظريات الوجود، ولِكُل نظريَّة، سَنَجِدُ عدداً من التَّفسيرات. وإذ ذاك، إذا كانت الحقيقة مادّية على نَحْوٍ صارِم، نبدأ نسأل أنفسنا. هل هي مِثاليَّة؟ حياديَّة؟ ثنائيَّة؟ تَعَدُّديَّة؟ نحن نُحَلّل كُلّ نظريَّة مقارِنين إيَّاها بِنَظَريَّاتِنا في الحياة، فإمَّا أن تُفْهَم وإما لا.