مَعْنى السُّلوك في الرُّوحِ

 

مَعْنى السُّلوكِ في الرُّوح

بِقَلَم يوسف سلامة

 

للرسالة الدَّاهِشِيَّة نور يُضيءُ، بالكَلِمة، يُضيءُ سَلاماً وراحَةً للنَّفْسِ والعَقْلِ مِن عَناءِ التَّفكير الفَلْسَفِيّ المُنْحَرِف والبَلْبَلَةِ التي زُرِعَتْ في العُقول عَبْر قُرون وَقُرون؛ تِلْكَ الضّيقة العَظيمة التي تَنَبَّأ عنها السَّيّد المسيح عَليه السَّلام والتي ذَكَرها الرَّسول مَتَّى في الإصحاح الرَّابِع والعِشْرين.

وفي زمننا هذا، نُدْرِك إنَّها الضّيقة الفِكرِيَّة والحيرة الآتية من جَرَّاء النِّزاعات الفِكْرِيَّة الطَّائفِيَّة والحِزْبِيَّة السّياسِيَّة الزَّائلَة.

وفي المُقابِل، تَدعو الرِّسالة الدَّاهِشِيَّة إلى وِحْدَة الأديان؛ أي أن أصْلَها رُوحِي سَّماوِيّ طاهِرٌ وخالِد. ما أن يَتَرَسَّخ هذا المفهوم السَّلامِيّ في عُقول البَشَر، يَنْتَفي مِن الأذِّهْان كُل تَعَصُّب طائفِي وحِزْبِي، ثُم ينْتَفي التَّناحُر الباطِل بين أبْناء الأديان والمَذاهِب الرُّوحِيَّة، فَيُصْبِح الرَّابِط بينهم الإيمان بإلهٍ واحِدٍ، والإيمان بِوجود روح جاءَ مِنْها الأنبياء والهُداة قاطِبَةً لإتمامِ رِسالَة واحِدة ذات هَدَف واحِد. فُتُصْبَح الحَرْب الرُّوحِيَّة لا على بَعْضنا البَعْض بَلْ ضِد كُل سَيَّال نَفْسيّ وَثَنِي يَدعو لِعبادة المادَّة والمال دون الخالِق عَزَّ وَجَلّ؛ أيْ كُل ما يَتَّصِل بالمظاهِر الخاِرِجِيَّة البَرَّاقة الخاِدعَة الفانِيَة. لَقَد صَنَعَ النَّاس أصْناماً لِيَعْبدوها دون الله تَعالى. أمَّا ما يُثير الدَّهْشَة حَقَّاً، فهو ذهاب بَعْض هَؤلاء النَّاس لِعبادَةِ الأصْنام بالرَّغْم من إنْذار الأنْبِياء لَهُم. فالعِجْلِ الذَهَبِي المادّي الفانِي كان رَمْزاً لِمَنْ تَمَرَّدوا على وصايا الله تعالى في أيَّام النَّبي موسَى عليه السَّلام. ومع الزَّمن، صارَ هذا الصَّنَم الذي يُمَثِّل “النزَعات” السُّفْلِيَّة بِشَكْل عام، لِيُصبِحَ، من ناحِية خاصَّة، صَنَماً نَفْسِيَّاً آخِذاً صورة الجِنْس (الشَّهوات الجِنسِيَّة)؛ أي أن الناس باتوا يَعْبدون الشَّهْوَة في المادَّة المجَسَّدة في (أذْهانِهِم وَقلوبِهِم). وقد تَجَلَّى الأمر في أيَّام النَّبِيّ لوط، قبل مجيء النبي موسَى عَلَيْهِ السَّلام، حيث عَصى النَّاس وصايا الله فجاء عِقابهم رهيباً، إذ سَمَح الله أن تَنزِل عليهم نارا من السَّماء سَكَبَتْها كائنات حَيَّة عائشة في كواكب عُلْوِيَّة كانت تراقِب بِكُل دِقَّة أعمال البَشَر. ثُمَّ مع تَطَوُّر العِلْم، واكْتِشاف الكهرباء والتّلفزيون وكل ما يَمُتّ إليها بِصِلَة، صار عبَّاد الجِنْس يتَلَمُّسون تلك الشَّهوة المتمَثِّلَة في أذهانِهم، ويسجدون لها كأنَّها إله حَيّ! إذ صار أمر مشاهدتها شِبه متاح وإباحِيّ. فيا للعار وكم باتَ مِنَ السَّهْلِ خِداع العَقْل.ألَم يَحِن الوقت لِيُدْرِكوا أن تلك الكهرباء التي اكْتُشِفَتْ (والتي يَتَصَوّرونها مُحَرّكة للجماد وباعِثة الحياة فيه) لَيْسَت سوى ذبذبات لها صورة َحْدودة، لا تتحَرّر منها النَّفْس إلا بالعَمَل الصَّالِح وأنَّهُ بعد تقمُّصات وتجارِب يبلُغ المراتِب الطَّاهِرة الخالِية من كل شائبة مادِّيَّة مغناطِيسيَّة؟

وَبِمَعْنى آخَر، ألَم يَحِن الوقت ليُدْرِكَ العالَم أنَّهُ ما هذا الصَّنَم الجَسَدِيّ سِوى  صورة يخلقها الفِكْر في حالات مُعِيّنة فيُدمن الإنسان عليها بِجَهْل حَتَّى يَسْقُط في الخَطيئة ثُم العِقاب الرَّهيب. ليس أعْظَم مِثال على ذلك سِوى قِصَّة ” ساطِعاً كالشَّمْس”*1 التي دوَّنها الدكتور داهِش بوَحْيٍ إلهِيّ؛ التي تَحْكي عن سُقوط ملاك اخْتار النُّزول إلى أرْض البَشَر ثم “نسَيَ وتغافل عن وصايا الله” فَسَقَط في الشَّهوة، فكان عِقابَهُ رَهيباً.

 

كُل شيء في هذه الحياة هو عِبارَة عن طاقَة (كُتْلَة)، حَتَّى أفكارنا أيضاً هي طاقَة، ويُمكن أن نُحاسَب روحيَّاً عليها أيضاً. لكن إن سَمَح الإنسان لتلك الأفكار بِالمكوث في داخِله؛ وإذا ما تَمَكَّنَتْ منهُ/ا وظَل يُفَكر في نَفْسِ الأمور ، لا بُد لها إذ ذاك أن تُتَرْجَمَ كشعور وحركات متجَسِّدة فينا. لذلك إذا سَلَكنا بحسَب قوانين السماء الطَّاهِرة التي هي (الحِكمة) ، خَلُصَ بِنا الأمر إلى خَلاص النَّفْس، وإلَّا عوقِبْنا فَعَلِقْنا، وقد تكون المعاقَبة الروحِيَّة بالموت. حياتنا تُشْبه متاهة لكن بقوانين.

لقد سَمَح الله تعالى  بِنِعْمَةِ التَّقَمُّص، تِلْكَ النّعْمة الظَّاهِرة في في موادِ الكون قاطِبَة والتي أدْرَكَها وَعَلَّمها العالِم الكبير (ماكس بلانك)2 والتي تقول فيما مَعْناه: ” المادَّة لا تُخْلَق ولا تَزول”. وبِمَعْنى آخَر، بعْد أن أوجَد الله الكون خالِقاً إيَّاه من العَدَم، صارَت (المادَّة) بَجميع أشْكالِها قابِلَة لِأن تتحوَّل من حالة إلى أُخْرى مهما كان نوعها، وهذا ينطبِق على البَشَر والحَجَر على حَدٍّ سواء. لقد أفهمنا نَبِيّنا الحبيب) الدكتور داهِش أن الموت ليس هو نهاية المطاف، بل هو عبور من حالة إلى حالة، فالنَّفس تعود لِتأخذ شكلاً آخر أكان بَشَرا أم حيواناً أم حجراً، فالكل يحاسِب على أعماله ويُمنح الشَّكل الذي يستحقّه بِنِسْبَة عمله المُقَدَّرة عند الله عَزَّ وَجَلّ. لا يمكن للإنسان فَهْم أعماق الله تعالى مهما بَلَغ به الأمر من عَبْقريَّة وإدراك وفَهم. وكما تقول الآية الكريمة: ” ويَسألونك عن الروح قُل الروح من أمر رَبِّي وما أوتيتم من العِلْم إلا قَليلاً” (سورة الإسْراء 85-87). إذاً لا يتم ما هو خير للإنسان إلا إذا طَّبَّقَ إرشادات  الأنبياء عليهم السَّلام، وتُعْتَبَر التَّضْحِيَة بالذَات من أجل الآخَر حَتَّى الموت سَبيلاً  عظيماً لِصِدق ما تكنُّه النفس من وفاء وإخلاص لتعاليم الله السَّماوِيَّة. وهنا نسأل: كيف؟ الجواب: بالإتّكال على الله لا النَّاس. عِبادة الله لا المال. الرِّفْق بالمسكين واليَتيم وعَدَم إيذائه حَتَّى لو وَقَف أقوى النَّاس في وجهك مُتَّحِدون، فَبقوة الله توقِفْهُم. كثيرون هم النَّازِلون إلى الهاوِيَة، وهُم بِدَورِهِم يَتَلَمَّسون الإيقاع بالمؤمن الصَّادِق ولو كانوا مع بعضِهِم مُتكاتِفون. ليس الدِّين قَولاً ومَظْهَراً خارِجِيَّاً بل تَضْحِيَةً في سَبيل الله من أجْلِ كُل كائن على وجه الأرض ولكن في الحَق والعَدْلِ. أنت تَعْمَل بالكَلِمة إذَن أنت مُؤمِن حَقيقيّ حَسَّاس؛ يُحِبّك النَّاس لأنك تُبادلهم الشُّعور. لكن عَمَلُكَ يكون في الله في الخَفاء ليس لإظهار النَّفْس والتَّباهي، رَجُلاً كنتَ أم امرأة. تُرى هل يجوز لأي إنسان ارْتِكاب جريمة لإسْعاد نفْسِهِ وتَحْقيق حُلْمِهِ المنشود الذي انْتظره عقوداً ناسياً أو متناسِياً وصِيَّة واحِدة من وصايا الله. كلَّا وألف كَلَّا. هُنا يَكْمُن الإخْتِبار، فَعِنْدَما تُميت ميولَك وشَغَفَكَ الأرْضِي تكون قد رَبِحْتَ نَفْسَك وكَنْزا في السَّماء لا يَفْنى. إنَّهُ لو كُنْتَ فقيراً ومُعْدَماً وكُنْتَ في طريقَكَ مُسْرِعاً في طَريق ضَيّق كَخَنْدَق ، ثُمَّ صادف أمامَك مرور عدد كبير من أطفال يلعبون وقد مَرُّوا في ذلك الخندَق فصار صعب عليهم الرجوع لِكثرَتِهِم، فهل تَدْهَسْهُم بِحُجَّة أن لديك أمر طارِئ في وقت معين يتوقف عندهُ مُسْتقبلك؟ أم تنتظِر حَتَّى يمر ذلك الطابور البَريء فتفوتكَ الفرصة الجسديَّة وتَرْبَح الإختبار الروحِي العظيم الذي اختبرك الله به؟ لا يمكن للمؤمن إلا الصَّبر وبذل كل ما هو غالٍ في سبيل الجائزة الروحِيَّة.

إن نفس الإنسان هي طفل ينمو روحياً بالعَمَل الصالِح، فإذا أنت قَتَلْتَهُ، فقد ارتكبْت جريمة في حَق نفسِك وأخَّرْتَ فُرصَة خلاصِكَ الروحِي.

 

ندعو الله أن يُلْهِمنا إلى كُل ما هو خير ومحبَّة. نعم هذه هي الداهِشِيَّة، إنها الوِحْدة الروحِيَّة بتطبيق وصايا الله بالمحبَّة وبَذْلِ النَّفْس حَتَّى الرَّمَق الأخير من أجل أخوتنا في الإنْسانِيَّة في المَحبَّة بِتَرْويضها.

دُمْتُم ودام عطاؤكم أخوتي الأحبَّاء ودامت محبَّتكم الأخويَّة وإيمانكم.

 

 

1“ساطِعاً كالشَّمسِ”: الجزء الأول ص. 140

2*” المادة لا تُخْلَق ولا تزول”- ماكس بلانك