أن تَكونَ داهِشِيَّاً

 

أن تكون داهِشِيَّاً

بِقَلَم مُنير مراد

تَرْجَمَة يوسف ق. سلامة

عندما كان نَبِيَّنا الحبيب في وسطنا، بَلَّغنا رأيهُ بِشأن السُّلوك والصَّفات التي يَجِب أن يَتَحلَّى بِها الدَّاهِشي. إنَّ المَعايير الدَّاهِشِيَّة عالِية جِدَّاً، وهي في جوهَرِها، تَتَّفِقُ والأديان الأُخْرى. إلَّا أَنَّها تَتَفَوَّقُ على الدِّيانات الأُخْرى أهَمِيَّة وذلك نَظَراً للوعْي الروحِي المُرْتَفِع والمَعْرِفَة التي تُقَدَّمها. ومع ذلك، فإنَّ الدَّاهِشِيَّة ليست ثوباً يَرْتَديه أحدهُم ليَعَرَّف عَنْهُ أَنَّهُ داهِشِيّ. إنَّ هذا أبْعَد ما يَكون عَنِ الحَقيقَة. إن الإيمان بالدَّاهِشِيَّة لا يَنْبع من الخارج بَل يَتَدَفَّق من أعْماق الإنسان إلى خارِجِهِ. هذا يَنْطَبِق على جَميعِ الأدْيان سواء بِسواء. إنَّ الإعْتِقاد في أيّ دين هو شُعورٌ شَخْصِيٌّ وفِطْرِيّ جِدَّاً، فَهُوَ سَيَّالاتِ الإنْسان الرُّوحِيَّة التي تتطابَق مع سَيَّالات (تعاليم) الدّين المُطابِق لَها، وذلك بِغَضِّ النَّظَر عن الدِّين الذي ولِدَ المَرْءُ عَلَيْهِ. جاء في الإنجيل: 5 “فَقَالَ الرُّسُلُ لِلرَّبِّ: زِدْ إِيمَانَنَا
6 فَقَالَ الرَّبُّ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذِهِ الْجُمَّيْزَةِ: انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ” (لوقا 17: 5-6) إنَّ الإيمان ليس شَيْئاً يُعْطَى لِشَخْصٍ ما، لكنه يَتَدَفَّق من داخِل المَرْء. يَحْدُث أن يولَد شَخْص ما على دِينٍ مُعَيَّن ثُم يَتَحَوَّل إلى دِينٍ آخَر في وَقْتٍ لاحِقٍ. يأخذ هذا التَّحوَّل مكاناً بِإرادَة الشَّخْص الحُرَّة لا بالقُوَّة. جاءَ في القُرْآنِ الكَريم ما يَلِي: ” لا إكْراه في الدّين…” ( سورة البَقَرة 256) وَمِن خِلال هذا الفَهْم، يُسْتَنْتَج بأنهُ مهما كانت حُجَّة تَغيير الدِّين مُقْنِعة، فإنَّهُ لن يَحْصُل إلَّا بِإرادَةِ الشَخْص وحْدَها، وبالتَّالي يُصْبِحُ التَّبشير مَضيعة للوقت والطَّاقَة. يَكفي تَقْديم  أي دِين مُعَيَّن وهذا يكون كافِياً، إذ مَنْ يسْتَحِقُّهُ فَسَيَعْتَنِقُه، وإلَّا فَسَيَرْفُضَهُ.

في الماضي، كثيرون قاموا بِزيارَة النَّبي الحبيب مُعايِنين مُعْجِزاتِهِ، وبِرَغْمِ ذلك لم يُؤْمِنوا بالدَّاهِشِيَّةِ.

 

لَقَد وُضِعَت المَبادِئ الدَّاهِشِيَّة لَنا من قِبَلِ الرُّوحِ الإلهِيِّ ثُمَّ سُلِّمَت لَنا بِواسِطَةِ النَّبِيّ الحبيب، الذي هو “عودة المسيح”. إنَّ هذه المَبادِئ (الرَّوحِيَّة) غير خاضِعَةٍ للتَّعْديلِ؛ للتتناسَبَ مع أهوائنا وأوهامِنا، أو لِتَحْقيقِ مَكاسِبَ شَخْصِيَّةٍ. إنَّ الدَّاهِشِيَّة هي حَقيقةٌ روحِيَّةٌ تَعْرِض لنا العديد من المفاهِيم الدّينيَّةِ الجَديدةِ، لكِنَّها لا تُقَدم لَنا إجابَةً عن كُلِّ سُؤال يَتَبادَرُ إلى ذِهْننا. إنَّ المَبادِئ الدَّاهِشيَّة (عَميقة) ولا يُمكن فَهْمها بِمُجَرَّد قِراءَةِ فِقْرَةٍ أو اثنين. لَقد قَضى الدكتور داهِش سَنواتٍ عَديدة مع تِلْميذِهِ، الدكتور غازِي براكس، يُنَشِّئُهُ فيها على الدَّاهِشِيَّةِ. كذلك وَجَّهَ الرُّوح الإلهِي الدكتور براكس من خِلال فَتْوى شاهَدْتُها بِأُمِّ عَيْنَاي، تقول بِأنَّهُ عليهِ بِكتابة “كتاب داهِشَي”. يُعَدُّ (هذا الأمر) تَكْليفاً حَصْرِيَّاً لم يُعْطَ لأي أحَدٍ غَيْرَهُ في تاريخ الدَّاهِشيَّة. إلى حَدِّ عِلْمِي، لقد تَمَّت كِتابة “الكتاب الدَّاهِشي” بِشَكْلٍ كامِلٍ، وهو يَحْتَوي على سِتَّة مُجَلَّدات، يتضَمَّن كُل واحِد منها ما يَتَعَدَّى الثَّلاث آلاف صَفْحة. أمَّا في ما يَخُصُّني، فقد أَعْلَن لي الرُّوح بِأن أَكون أَداة لِنَشْرِ الدَّاهِشِيَّة في الوِلاياتِ المُتَّحِدة الأمريكيَّة، وإنَّهُ لَشَرفٌ لي أن يكون لي هذا الإمتياز.

 

ليس سَعْيَنا في تطوير موقِع:  www.Daheshism.com أن يَكون مِنَصَّة لِطَرْحِ رأي شَخْصِيٍّ لأي فَرْد، بَل هو جُهْدٌ مَوضوعِيٌّ من أجل تقديم حياة وديانَة مُؤَسّس الرِّسالة الدَّاهِشِيَّة بكل أمانة إلى النَّاس. إنَّ مُحْتوى هذا الموقِع مُسْتَمَد من كتاباتِ نَبِيِّنا الحَبيب نَفْسَهُ، وَمِن كِتاباتِهِ المُلْهَمَةِ وتعاليمِهِ، والرَّسائل الرُّوحِيَّة المُعْلَنَةِ. وبالإضافَةِ إلى ذلك فإنَّ كثيراً مِمَّا جاءَ في الموقِع من كتابات هو مُسْتَمَدٌّ من كتابات تلْميذهِ، الدكتور غازي براكس، الذي لازَمَهُ فترة سبعة عَشْرَ عاماً، وعاشَ معه ليل نهار لِفترة سِتَّة وعِشرين شَهْراً. وطِوال هذه الفَتْرَةِ الطَّويلة، شَهِدَ الدكتور براكس مِئات المُعْجِزات، كما أنَّهُ كانَ حاضِراً عندما زار الدكتور داهِش العَديد من الكُتَّاب والمُفَكِّرين والأدباء والصّحَفِيين ووالسيَّاسِيين وغيرهُم. قد يتساءَل أحدهُم، لِماذا الدكتور براكس بالذَات؟ لَقَد اخْتارهُ مُؤَسّس الدَّاهِشيَّةِ حَصْراً لأسْباب تَتَعَلَّق بتَقَّمُّصاتهِ السَّابِقَةٍ، وأيضاً لأن الرُّوح الإلهي اخْتاره لِكتابَةِ “الكِتاب الدَّاهِشِيّ”. وقد حَدَث هذا عِنْدما تَحَوَّلت بِمُعْجِزة روحِيَّة وَرَقة بيضاء كانت في يَده إلى رِسالَةٍ روحِيَّةٍ تُبْلِغُهُ فيها ما يَلي: ” سَتكون مُلْهَماً في كتابة الكَتاب، وذلك بِنَفْسِ الطَّريقة التي أُلْهِم فيها تلاميذ السَّيّد المسيح عليهِ السَّلام كِتابة أناجيلِهِم.” ولِهذا السَّبب، كل من يُخالِف تعاليم النَّبِيّ الحَبيب وتلميذهِ المُخْتار روحِيَّاً، لا يُمْكِن اعْتِبارهُ داهِشِيَّاً، وسيكون مُسيئاً للقَضيّةِ الدَّاهِشِيَّة.

 

إنَّ أمْرَ  انْتِشار الدَّاهِشِيَّة في الوِلاياتِ المُتَّحِدة الأمريكيَّة وفي العالَم بِأكمَلِهِ، هو مَحْكومٌ بِتَوقيت مُعَيَّنٍ وبِحِكْمَةٍ مَعْلومَةٍ فَقَط للرُّوحِ الإلهِيَّةِ، ولا يُمْكِن لأيّ إنْسانٍ التَّنَبُّؤِ بِها. إلى حَدِّ عِلْمِي، هناك شروط يجب أن تُسْتَوفى قَبْل أن تَبْدأ الدَّاهِشِيَّة بالإنْتِشار: أوَّلاً، نَشْرُ الكِتاب الدَّاهِشِيّ للدكتور غازي براكس، إنَّ هذا الكتاب الضَّخم مكتوب بالعَرَبِيَّة الأمر الذي يَسْتَغْرقهُ وقتاً طويلاً لكي يُتَرْجَمَ إلى اللغة الإنجليزِيَّةِ ولُغاتٍ اُخْرى. ثانياً: ضرورة تَنْظيم الهيئة التي تُديرُ شُؤون الإيمان الجَديد. لقَد قَدَّمَ لنا النَّبيّ الحبيب والرُّوح مُتَطلَّبات مُحَدَّدة كما وضِعَت دُسْتوراً لهذه الهيئة الإدارِيَّة. ثالِثاً، هناك مِيزَة ما تَخُصّ بَني البَشَر الأمر الذي يُخوّلهم لِقبول الإرْشاد الرُّوحِيّ. لقد كانت هناك شروطاً سابِقة أُخْرى وقد تَمَّ الوَفاء بِها. إنَّ أهم ما يُمْكِن أَن يُعْمَل في هذه المَرْحَلة المُبَكِّرة من الدَّاهِشِيَّة، هو جَعْل كل ما يَمُتُّ للإيمان بِصِلَة مُتاحاً للنَّاس. فإنَّ الهيئة الإدارِيَّة، ودارُ الصَّلاةِ، والأمور المُتَّصِلة الأخرى، يُمْكِن تنفيذها في وقت لاحِق. على الدَّاهِشِيَّة أن تكون مَبْنِيَّةً على أساسٍ مَتين من إيماننا، فَمَع أي أساس ضَعيف، يُمْكِنُ لأي هَيْكَلٍ مُعَقَّد أن يَنْهار.

 

في الماضِي، شعر كثيرون بالإحْباط من جَرَّاءِ تَقاعُسِ بعْض الدَّاهِشيين، لا سيما الأْسرة (الدَّاهِشيَّة) المُكَلَّفة بِكتابات وتراث نَبينا الحبيب. قُلْتُ رأيي بِصَراحَةٍ حول قَضايا مُعَيَّنة، لكنني لم أُسِئ إلى مكانتهم أو اُشَكك في إيمانهم ، أكان سِرَّا أم عَلَنا. اعْتَقَدوا أنني ما زلت غير ناضِجاً في الإيمان وأنه عَلَيّ أن أتَوَقَّف. من حَقَّهم اتّخاذ هذا الرَّأي ومن حَقَّي أن لا أَتَّفِق مع ذلك. فلا حَرَج في تِبْيانِ أَحَدهم لِرَأيِهِ شَرْطَ أن لا يكون فيه انتِهاكاً للتَّعليمات الرُّوحِيَّة. ومع ذلك، بِغَضِّ النَّظَر عن ما تَخْتارَهُ هذه العائلة، تَظَل هذه المسألة رأياً خاصاً بهِم وبِضميرهِم وبينهم وبين خالِقهم. عاجِلاً ام آجِلاً سَنَتوَافَق فيما بيننا مُحَيِّدين الخِلافات فيما بيننا وذلكَ مِن أجْلِ الدَّاهِشِيَّة. لأن قَضِيَّة الدَّاهِشِيَّة النَّبيلَة هي أَبْعد من المُشاحَنات المُهْلِكة التَّافِهة. وكَداهِشِيين، نحن نَعْرِف عَواقِب عَدَم وضع الدَّاهِشِيَّة فوقَ كُلّ القَضايا الشَّخْصِيَّة، وَإليكُم مِثال على ذلكَ:

عندما كان النَّبِيِ الحَبيب في وَسْطِنا، تشاجَرَ، بعْض، الدَّاهِشيين مَعَ بعضهم البَعْض، الأمر الذي أغضب النَّبي الحبيب. دَفَعَتْهُ هذه الحادِثة إلى أن يكتب ويُحْرِق رمزاً مُقَدَّساً (صَلاةً وقُرْباناً) يَحْتَوي على ما يَلي:

أُقْسِمُ بِحَقِّ الله العَلِيِّ العَظيم بِأَنَّهُ بَعْد حَرْقِ هذا الرَّمْز إنْ بَدَرَ مِن أيّ أَخ أو أُخْت أيّ كَلِمَة نابِيَةٍ أو تَهَجُّمٍ يَدَع العقيدة السَّامِية تَتَفَكَّك فإذ ذاك يخرَج من الرِّسالة طَرْداً ويَجِب أن يكون حُبٌّ حَقيقيّ وإخلاص وتَفانِي بين الأخوة وإنِّي أَطْلُبُ مِن الرُّوحِ العُظْمَى أن تُثبِتَ ما دَوَّنْتُهُ بِحَقِّ الله.

داهِش، 5-7-1980

 

علينا أن لا ننسى الدَّرْس الذي عَلَّمَنا إيَّاه السَّيِد المسيح عن الحُكْم عَن الآخَرين: ” 37 وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ.
38 أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. ”

 

وخُلاصَةُ القَولِ هي هذه: لا يجب أن يُهاجم الدَّاهِشيون بَعْضَهُم بَعْضاً- أو اي شَخْص آخر حول هذه المَسْألَة. وَمِمَّا يُؤسَف له أن الحال لم يَكُن هكذا أبَداً؛ ولَسوف يواجه هؤلاء الجُناة العواقِب الرُّوحِيَّة لِعَمَلِهِم، ومع ذلك، أَنا داهِشِيّ، ومُؤمن بِالسيِّد المَسيح عليه السَّلام الذي قال: ”  3 اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ.
4 وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ، وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ، فَاغْفِرْ لَهُ”

 

لا الدكتور براكس، ولا أنا لَدَيْنا أيَّة مُشْكِلَة في إعْلانِ عقيدتنا الرُّوحِيَّة. يأخُذ أعظَم النِّفاق مكاناً عِندما تَدَع الغَطْرَسَة الفَرْدِيَّة للمرء أن يَضع التَّعاليم الحَقيقيَّة للدّين، في مَرْتَبَة ثانِيَةٍ، وذلك لِتَحقيق مَجْدَهُ/ا الشَّخْصِيّ. لاحَظَ يسوع كيف أنَّ بَعْض ضُيوفه كانوا يَخْتارون أفْضَل الأماكِن، الأمر الذي دعاه ليقول هذا المَثَل لِجَميعِهِم: ” 7 وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى قِائِلاً لَهُمْ:
8 مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ.
9 فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَانًا لِهذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَل تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ.
10 بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ.
11 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ ” (لوقا 14: 7- 11)

 

وفي مُناسَبَةٍ أُخْرى، كان التَّلاميذ يتجادلون فيما بينهُم حول من كان أعْظَماً، فقال يَسوع: ” 35 فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ” ( مُرْقُس 9: 35)

 

هُناكَ أولَئِكَ الذين يَعْتَقِدون أنَّ عَدُوَّ عَدُوّي هو صَديقي. أنا آسِف لِهذا الأمر، لكنني لا أوافِق على هذا النَّمَط من التَّفْكير. إنَّ عَدوِّي الوحيد هو الشَّر والجَهْل والغَطْرَسَة. وكَداهِشِيّ وإنْسان، لا تُساورُني أيَّة سوء نِيَّة اتِّجاهَ أيِّ شَخْصٍ، ولَن أنْجَرّ إلى خِلافاتٍ عَقيمة، صاخِبَة، واتِّهامات تتعارَض وإيماني الدَّاهِشِيّ.

 

منير مراد

22 فبراير 2009

 

 

 

الفَصْلُ الخامِسُ، مَن هو الدُّكتور داهِش

 

الفصل 5

من هو الدكتور داهِش؟

 

ولِدَ سَليم موسَى العَشِّي في القُدس 1 يونيو، 1909 . انْتَقَل والِداه إلى لُبنان عِنْدَما كان طِفْلاً. تَوَفَّى والدهُ عندما كان سَليم في الحادي عشر من عُمْرهِ. كان على والدتهِ العَمَل بِجَدٍّ لِتَنْشِئتهُ وأَخواتِهِ. لَم يَتَلَقَّ تَعْليماً في أي مدرسَة أو كُلِيَّة باسْتِثناءِ البِعْثة الأمريكيَّة في لُبنان حيث أمضى فيها بِضعَةَ أشْهُرٍ. إلَّا أنه كان لديه حُبَّاً للأدَب والفنون البَصَرَيَّة. بَدَأ في كِتابة النَّثْر بينما كان في سِنّ المُراهَقة. في العام 1920، عاد سَليم إلى فلسطين وعاشَ في بيت لَحْم. اشْتُهِر في فلسطين لِما صَنَع من أُمور خارِقة للطَّبيعة . فَسَّرَ مُعْظَم النَّاس هذه القوى الخارقة للطَّبيعة على أنَّها سِحْرٌ وشَعْوَذَة. وبِرَغْم ذلك ، نَمَتْ سُمْعَتَهُ. وكما أنَّ اسْمَ إسرائيل قد أُعْطيَ روحِيَّاً لِيَعْقوب، كذلك  اسم داهِش أعطِي روحِيَّاً إلى سَليم. إنَّ التَّرجمة الحَرْفِيَّة لإسْم داهِش هي ” مُذهِل” . ومن خلال نَشْر بَعْض أعْماله “الأدبيَّة” في وَقْتٍ مُبَكّر، تَمَكَّن من تَحْصيل المال الكافي لمتابعة أهدافهِ الأُخْرى في الحياة.

 

سافر داهِش إلى جميع أَنْحاء الشَّرْق الأوسَط وأُوروبا وحَصل على شهادة دكتوراة من الجمعِيَّة النَّفْسِيَّة الدُّوَلِيَّة في السَّادِس من شهر مايو عام 1930 ثُمَّ شهادة دكتوراه من معهد “ساج”- باريس في الثاني والعِشرين من شهر مايو 1930 وذلك بِناء على قُدْرَتِه بِتَعَدّي قوانين الطَّبيعة. حوالي 150 خبيرا في حقل الدّراسات الخارِقة للطَّبيعة حَضَروا وَشَهِدوا الرَّجل ابن العشرين عاماُ فكان أنَّهُ  بِناءً على طَلَبه، أن وضعوه في تابوت، ثم قاموا بِخَتم النَّعْشِ، وألقوهُ في نَهْر السّين حيث مكث في داخِله سَبْعَة أيَّام تحْتَ المُراقَبَةِ المُشَدَّدَةِ. وحَدَث بعد انْتِهاء السَّبعة الأيَّام أن سُحِبَ النَّعْش خارِجاً مع مُعاينة الخَتْم. أكَّد الخُبَراء أنَّ الخَتْمَ كان سَليماً. وعندما تَمَّ كَسْر الختم وفُتِحَ النَّعْش، وجدوا رجل المعْجزات مُبْتَسِماً و بِصِحَّةٍ جِيدة.

 

في عقد الثلاثينات قَطَن الدكتور داهِش في بيروت.

في 23  من شَهْرِ مارس 1942 أعْلَن قيام دعوة روحيَّة تُدْعى الدَّاهِشِيَّة. دَعا إلى وِحْدَةِ الأدْيان والعودة إلى السُّلوك الإنْسانِيّ الصَّالِح. وقد مَنحتهُ القوة الرُّوحِيَّة التي أُجْرِيَت على يَديه مِصداقِيَّة النَّبي. هل تستطيع تَخَيُّل كَمْ يُمْكِن أن يكون عدد المُؤمنين بالسَّيّد المسيح عليه السَّلام لو لَم تَجْرِ على يَديْهِ قوى خارِقة للطَّبيعة؟ في ذلك الوقت لم يُؤمن أحَد بالدكتور داِهش كَنَبِيّ سِوى عدد قليل من النَّاس. وقد شَمَل ذلك، عائلة حَدَّاد بِما فيهِم مارِي حَدَّاد أُخْت زوجة رئيس لبنان بشارة الخورِي الذي صار رَئيساً للبنان. لقد عارَض  الزُّعَماء الدّينيّين مع بشارة الخورِي الدكتور داهِش وذلك بِمساعدَة زوجة بشارَة الخوري لِزوجها في ذلك، لور الخورِي، التي حاوَلَت بِدورها إكْراه مارِي حَدَّاد وعَائلتها في التَّخَلي عن عقيدتهم الدَّاهِشِيَّة. فَلَمَّا رفَضَت مارِي حَدَّاد وعائِلتها ذلك، أمر الرَّئيس بِسجنها في عِدَّة مُناسبات. وفي إحْدى المراحِل بَقيَت في السِّجْن مُدَّة سنة واحِدة. ثُمَّ أخْضَعها في مَصَحٍّ عَقْلِيّ، حيث وجدها الأطبَّاء بِصِحَّة عقلِيَّة سليمة فَأُطْلِق سراحها.

 

وعندما فَشِلَت الأساليب السِّياسِيَّة، قام بشارة الخوري وأخو زوجته ميشال شيحا بتَوظيف مُجْرِمين لاغْتِيال الدكتور داهِش، إلَّا أن جميع محاولاتهم باءَت بِالفَشَل. في 28 أغسطُس، 1944، تَمَّ نَصْب كَمين للدكتور داهِش فَضُرِب وسُجِن دون سَبب يُذْكَر مُدَّة ثلاثة عشر يوماً، فَضْلاً عن تَجْريدِهِ مِنْ جِنْسيَّته اللبنانِيَّة (ما يُشَكّل انْتِهاكاً مُباشِراً للدُّسْتورِ اللبنانِيّ) ، ثُمَّ طُرِدَ مِنْ لُبنان. وحَدَث حِين ذلكَ أن أُلْقِيَ القَبْضَ عَليه في مِنْطَقَةِ أذَربيجان الإيرانِيَّة عام 1947، لم يَكُنْ لَدَيْهِ أوراق لإثْباتِ هُوِيَّتِهِ، وإذ كان هناك ثورة دَمَوِيَّة جارِية على قَدَمٍ وساق، تَمَّ اعْتباره خطأً على أنَّهُ جاسوس. ونتيجة لذلك، عُصِبَت عَيْناه، وتَمَّ حُكم الإعْدام فيه رَمْياً بالرَّصاص في 1 يوليو  1947. وقد تَمَّ تَصوير الإعْدام وتَوثيقُهُ.

 

ومع ذلك، لم يكن الدكتور داهش الإنسان هو الذي أُعْدِم. فَمَنْ أُعْدِمَ كان نظيراً روحِيَّا له آخِذاً مكانهُ. الأمر نَفْسَهُ حدث في وقت الصَّلْب. لقد رأى النَّاس يسوع المَسيح على الصَّليب لكن يقول القُرآن الكريم “… وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ” ( سورَة النِّساء 157) وفي كلمات أخرى، من صُلِب كان شبيهاً لهُ. وبِما أن نَظيرهُ هو كيان رُوحِيّ، فإنَّهُ غير خاضِعٍ لِقوانين الطَّبيعَة. لقد قام شبيه يسوع المسيح من بين الأموات، وكذلك على حَدٍّ سواء قام نَظير الدكتور داهِش. يُشار إلى الكيان الروحِيّ في الدَّاهِشِيَّة على أنَّهُ “شَّخْصِيَّة روحِيَّة”. للدكتور داهِش سِتّ شَخْصِيَّات، وقد تَسَنَّى لِبعْض النَّاس رُؤيتها مُجْتَمِعة في وقْت واحِد. فيما كان بِشارة الخورِيّ يَحْتَفل، كان الدكتور داهِش الإنسان عائداً إلى لُبنان لِيُعِدَّ هجوماً إعْلامِيَّاً واسِعَ النِّطاق على ظالِمِيهِ.

 

خلال هذه الفَتْرة كُلّها، لَم يَقفْ أي أحد في لبنان ليدافِع عن حقوق الدكتور داهِش. الأمر الذي دَعا الدكتور داهِش أن يَقِف موقِف الحائر إزاء هذه الحقيقة، وفي بَعْضِ كتاباتِه يَذْكُر أنّهُ في القَرْن التَّاسِع عَشَر ، خاطَرَ إميل زولا بِحَياتِهِ ومِهْنَتِهِ حينما وقف مُدافِعاً عن ألفْرِد دريفوس ، الضَّابِط اليهودِيّ الفَرَنْسِيّ، الذي اتُّهِمَ بالخيانة. الأمر الذي يخالف تماماً ما جَرَى وَقَضِيَّة الدكتور داهِش؛ حيث لم يَتجرَّأ أحَد على الوقوف في وجهِ مُتَّهِمِيه. لقد أغْلَقَت وسائل الإعْلام في لبنان أعْيُنَها وآذانها سامِحَةً لِهذا الأمر أن يَحْدُث وبالتَّالي مُتَآمِرَةً مع الحكومة اللبنانِيَّة. لقد قام الدكتور داهِش بِكتابَة وتوزيع كُتَيِّباتٍ وكُتُب عُرِفَتْ بإسم “الكُتُب السَّوداء”. هذه المنشورات هاجَمَت شَخْص الرَّئيس اللبنِانِيّ، وحكومَتِهِ، رِجال الدّين ووسائِل الإعْلام. فَمِن خلال هذه المَنْشورات الجَريئة، قَدَّم الدكتور داهِش الوَقائِع الحَقيقيَّة عن قَضِيَّتِهِ للجمهور، حيث عَرَض لطبيعة الرَّئيس اللبنانِيّ وفَضائِحِهِ. ساهِمَت مُحْتَويات الكُتُب السَّوداء في إحْداث انْتِفاضَةٍ شَعْبِيَّةٍ ضِدَّ نِظام الرَّئيس اللبنانِيّ في 18 سِبتَمبر، 1952.

 

اسْتَعادَ الدكتور داهِش جِنْسِيَّتهُ اللبنانِيَّة خِلال رِئاسَةِ كميل شَمْعون. وقد أقام الدكتور داهِش في لُبنان حَتَّى 1976، حيث دافَعَ عن الدَّاهِشِيَّة، وحيث كَتَبَ وعَلَّمَ وسافَرَ. لقد كَتَبَ أَكثر من مِئَةِ كِتابٍ- في اللغة العربيَّة، وهي تُغَطِّي مجموعة واسِعة من الأدَب. لقد جاءت بعض كُتُبِهِ بِآياتٍ ، وقَصائد في غيرها، في حين أَنَّ بعضها الآخر شَملَ عَلى الرّوايات والقِصص القَصيرة. كما أنَّهُ يَتِمّ ترجمة جميع كُتُبِهِ حالِيَّاً إلى لُغاتٍ عَديدة.

بعد عام 1976 ، جاب الدكتور داهِش العالَم باحِثاً وكاتِباً عن النَّاس وثقافتهم وروحانِيَّتِهِم.

 

تُغَطِّي كتابات الدكتور داهِش مجموعَة مُتَنَوِّعة من المواضيع، لكنك تَجِد أنَّ الموضوع الرَّئيسيّ الثَّابِت فيها يَتَمَثَّل:  بِانْحِراف الإنْسان عن السُّلوك الحَسَن، وبِاتَّباعِهِ الحياة المادِيَّة. وأيضاً أنَّ الحياةَ عبارة عن سَراب سوف يتلاشى قَريباً، وان الحقيقة سَتَنْجَلِي بكل ما أمْكَن. تَحْمِل الكَثير من كتاباتِهِ حزناً كبيرا، وفي العَديد من قِطَعِهِ الأدبِيَّة تَغَنِّي بالموت وأمْنياتٍ لِلَحْظَةِ الإلتِقاء. لقد نال كفايتهُ في هذه الحياة مِن بُؤْسِها ، والفَوضى، والإدِّعاء، والألم، وسُلوك البَشَر، وعَدَم إيمانهِم بالله تَعالى .

 

لقد سَعِدْتُّ بِمَعْرِفَةِ الدكتور داهِش لِسَنَواتٍ عَديدة، ابًْتِداءً من طُفولَتي. تَحَدَّثْتُ، وتناولتُ الطَّعام، وسافِرْتُ مَعَهُ. كان يَبْدو عادِيَّاً كَأيِّ إنسانٍ آخر. كان لديه شَخْصِيَّة فيها حِسّ الفُكاهَة والرَّأفَة. كان رَجُلاً مُتَواضِعاً وبَسيطاً.

غِذاءهُ يَتألَّف في مُعْظَمِهِ من الفواكِهِ والخُضار (خاصَّةً البَصَل) والجُبْن. كان يُحِب جَمْع كل ما يَتَعَلَّق بالفَن والكُتُب العالَمِيَّةِ. في أعماق قَلْبِهِ كان رَفيع الثَّقافَةِ، فَطِناً، رَفيعَ الخُلُقِ، بارَّاً، وحَكِيماً. لم يَكُن قادِراً على أداء مُعْجِزة إنْ لم يَكُن قد حان وقت حدوثها؛ إذْ ينْبِغي لِحدوثها أن يكون هناك سبب. تماماً كما حَصَل مع يسوع المسيح ” 2 وَدُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ.
3 وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ.َ
4 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ” (يوحَنَّا 2 :3- 4)

 

من الأعْمال الخارِقة الكثيرة التي شاهَدْتُ سآتي على ذِكْر أربَعَةٍ مِنْها فقط:

عندما كنت في السَّادِسة عَشْر من عُمْرِي كان لي صَديق يُدْعى جوزيف. كنت وجوزيف صَديقَيْنِ حَميمَيْن. وكثيراً ما تَحَدَّثْنا عن الدكتور داهِش، عن رسالتهِ وقُوَّتِهِ. وفي أحَدِ الأيَّام، سَأَلْتُهُ إذا كان مُسْتَعِدَّاً للذَّهاب مَعي لِزيارَةِ الدكتور داهِش، فَوافَقَ على ذلك. اتَّصَلْتُ بالدُّكتور داهِش اسْتَأذَنْتهُ بِخصوص إحْضار صَديقي مَعي، فوافَق. وكان أنِّي توَجَّهْتُ بِرفْقَتِهِ لِرؤيَةِ الدكتور داهِش. حَيَّانا، وجلس على بُعْد حوالي سِتَّة أقدام مِنَّا، ثُم طَلَب من جوزيف أَخْذَ ورقةٍ عادِيَّة. ثُمَّ طَلَب منهُ أن يقُصّ الوَرَقة إلى أربعة قِطَعٍ مُتساوِيةٍ في الحَجْم. وطلَبَ الدكتور داهِش من صَديقي أن يُدَوِّن على كُلِّ ورقةٍ اسم نَبِيّ، ثُمَّ  أن يَطوي كُلّ وَرَقة عِدَّة مَرَّاتٍ وأن يخلطها ببعضِها البَعْض بحيث تَصْعُب معرفة الوَرَقة عن الأُخْرى. ثُمَّ طَلَب مِنْهُ أن يَخْتار ورقة من الأوراق الأربع وأنَ يَضعها في كَفّ يَدِهِ ثُمَّ يُحْكم إغلاق كفه جَيّداً. في ذلك الحِين، بدأ الدكتور داهِش يكتُب بإصْبَعِه، في الهواءِ واصِفاً ما يَكْتُبُهُ. وحَدَثَ أنَّهُ في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ تَعَمَّد إجْراء خطأ فَرَسَمَ إشارَة X على الكَلِمة ثم كَتَبَ الكَلِمةَ الصَّحيحة. عندما فَرَغَ من ذلك طلب من جوزيف أن يَفْتح كَفّهُ ويَفْتَح الوَرَقة. وعندما فَعَل ذلك، كان على الورقة إسم أحد الأنْبِياء فَضْلاً عن، كُل كَلِمة قام الدكتور داهِش بِتَدْوينها في الهواءِ، بِما في ذلك إشارة X التي دَوّنها على الكَلِمة التي شَطَبَها. فَتَح جوزيف باقي الأوراق ليَتَأَكَّد من عَدَم وجود ازْدِواجِيَةٍ في الأسْماء، فَلَم يَجِد.

 

عِنْدَما كُنْتُ في الحادي والعِشرين من عُمري، بينما كُنْتُ ضَيفاً على الدكتور داهِش في بيروت، كُنَّا جالِسين ونُدَرْدِش مع مجموعَة مِنَ النَّاس، وحَدَث أن كانَ هُناك وَرَق لَعِب على الطَّاوِلة. طَلَب الدّكتور داهِش مِنِّي خَلْطَ الأَوراقِ بِشَكْلٍ كامِل، وبِأن أخْتار ورقة، ثُمَّ أنْ أنْظُرَ إليها من دون أن أُريها لَهُ. ثم قام بِطَيّ كُمّ قميصهِ الأيمَن، أخذ البِطاقة التي في يَدِي وهي من فِئَةِ “الشَّاب” “Jack” ثُم قام بِفَرْكِها عِدَّة مَرَّات على ذِراعِهِ دون أن يَنْظُر إليها. وفجأة، طُبِعَ اسم وَرَقة فِئة “المَلِكة” على ذراعِه بِحِبْر. ثُم أعاد البِطاقة لي، ما أن نَظَرْتُ إليها مَرَّةً أُخْرى حَتَّى وجدت أنها ما زالت كما هي، أي ورقة من فِئة “الشَّاب” أو “Jack”. قُلت في نَفْسي، ثَمَّة شيء ليس على ما يُرام. كيف يُمْكِن لِقُوَّة رُوحِيَّة خارِقة للطَّبيعَة أن تُخْطِئ؟ كما فوجِئت أيضاً من عَدَم إبْداء أي شيء إزاء هذا الأمْر من قِبَلِ الجالِسين مَعَنا الذين شاهدوا الأمْر، وبعد دقائق قَليلة مَشَى الدكتور داهِش نحو إحْدى الغُرَف طالِباً مِنِّي أن أَتْبَعهُ. فَعَلْتُ ذلك، حامِلاً الورقة من فِئة “الشَّاب” في يَدِيّ. سألني عمَّا فَكَرْت فيه أثناء ما حَدَث، وفيما كُنْتُ أَهِمُّ بإخْبارِهِ عن الخَطأ ، حَدَثَ أن نَظَرْتُ إلى الورقة فإذا بِها تحْمل رسْمَاً لِفِئَةِ “المَلِكة”. تُرى هل تَحَوَّلَت الوَرَقة الوَرَقة أثناء حَمْلِها في يَدِي.

وفي كِلْتا الحالَتَيْن، كان أمراً خارِقاً للطَّبيعة.

 

خِلال نَفْسِ الفَتْرة، كان للدكتور داهِش عدداً من كُتُبِهِ المَطبوعة. وقد تَسَلَّم واحِداً مِنْها  قَبْل عِدَّةِ أيَّام. كُنْتُ وَحْدِي في الرُّدْهَة، وجاءَ إلَيّ حامِلاً نُسْخَةً في يَدِهِ، وقال لي بِأَّنهُ يَوَدُّني أن أمْتلكها. قَبِلْتُ بكُل سُرور، لكنَّني أصَرَّيْتُ على أن أَدْفَعَ الثَّمَن، لأنَّ ما هو مَطبوع ليس مجَّانِياً. قال لي: “جَيِّد جِدَّاً، كما تَشاء”، أعْطَيتهُ المال بالعُمْلة الأمريكِيَّة، ما إن أخذ المال حَتَّى وَضَعهُ في كَفِّهِ، أقْفَلَها، وسألني قائلاً: “أين المال؟” فأجَبْتُهُ: “إَّنهُ في يَدِكَ” . فَتَح يدهُ ، وكانت فارِغة. ثُمَّ سَأَلَني قائلاً: ” ماذا تَظُن أنَّهُ حَدَثَ هُنا؟” فَأَجَبْتُهُ، لا بُد أن يكون قد وُضِعَ على المال سَيَّالاً روحِيَّاً أخْفاهُ”. ثم قال اتْبَعْنِي. دخلنا إلى إحْدى الغُرَف التي كانت فيها خَزينةً. طَلَب مِنّي فَتْحَ الدُّرْجِ العُلْوِيّ. حاولت فَتْحهُ لكنَّهُ كان مُقْفَلاً. رَسَم الرَّمْز الدَّاهِشِيّ عليها (نجمة خماسِيَّة الأقْطاب) وطَلَبَ مِنِّي أن أُحاوِلَ مَرَّةً أُخْرى، وفَعَلْتُ، وفُتِحَت هذه المَرَّة. نظرتُ داخِلَ الدُّرْجِ، فَرَأيْتُ بين عِدَّة أشياء، المال الذي أعْطَيْتَهُ إيَّاهُ من أجْلِ الكِتاب. مع قِطعة من الوَرق مُدَوَّنٌ عَليها “مِن مُنير”، وكانت موضوعة عَلى النُّقود. لَم تَكُنْ إجابَتِي صَحيحَةً إذْ أنَّ المال لَم يَخْتَفِ بَل، اخْتَفَى وتَجَسَّدَ في موضِعٍ إلى آخَر.

 

في أوائل الثَّمانينات، قَدِمَ الدكتور داهِش لزيارَتِنا في ولاية فرجينيا. أقامَ في شقَّةِ أُخْتِي. وعندما شارِفِت زيارَتهُ على نهايتها، طَلَب مَنِي التَّوَقُّفَ عَلَى الطَّريق لإيصالِهِ في الصَّباح الباكِر إلى وِلايَةِ نيويورك. كان حامِلاً قِطْعَة حَلْوى في يَدِهِ، وبينما كان يَمْشي من غُرْفَةِ النَّوم إلى غُرْفَةِ المَعيشَةِ، تَوَقَّفَ في الرُّدْهَةِ ثُمَّ حَطَّمَ قِطعة الحَلوى على الجِدار. وعندما أطْلَقَ يده، عن الجدار، تَوَقَّعْتُ سقوط القِطعة المُحَطَّمة على الأرْض، وهذا ما حَدَث- سمعْتُ صوت سقوط قِطعة الحَلْوى، لكن دون وجود أي أَثَر لها هُناك. ثُمَّ أدْرَكْت أن القِطْعَة كانت قَد تَخَلَّلَت الحائط الجاف، دون إلحاق أيّ ضَرر بِهِ، ساقِطة من الجانِب الآخَر.

 

فَمَن هو الدكتور داهِش؟ إذا كانت لَديك فُرْصَة لِطَرْحِ هذا السُّؤال عَلَيْهِ، لكانت إجابَتهُ على الأرجح على النَّحْوِ التَّالي: “مَن تَعْتَقِد أنِّي أَنا؟” عِنْدما سُئِلَ السَّيِّد المسيح علَيه السَّلام من قِبَلِ رَئيسِ الكَهَنةِ إنْ كان هوَ المَسِيَّا أم لا، أجابَهُ يَسوع: ” … أنتَ تَقول…” (مَتَّى 26: 64) ليس لَدى أتْباع الدكتور داهِش أيّ شَك حَوْلَ مَنْ هُوَ، لكن بِما أنّهُ مُؤَيَّد بِقوى رُوحِيَّة خارِقة، صانِعاً معجزات السيَّدِ المسيحِ عليهِ السَّلام عَيْنِها، فقَد ذهب بالنَّاس الحَد إلى اتّهامِهِ بأنُّهُ شيطان، المسيح الدَّجال، ساحِر، مُشَعْوِذ، وأشياء حَقيرة أُخْرى. هذا الأمر ليس مُسْتَغْرَباً، لأن النّاس حَمَّلوا السَّيد المسيح عليه السَّلام نَفْسَ التُّهَم.

22 وَأَمَّا الْكَتَبَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا: إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ! وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ.
23 فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ بِأَمْثَال: كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَانًا؟
24 وَإِنِ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ.
25 وَإِنِ انْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَقْدِرُ ذلِكَ الْبَيْتُ أَنْ يَثْبُتَ.
26 وَإِنْ قَامَ الشَّيْطَانُ عَلَى ذَاتِهِ وَانْقَسَمَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ، بَلْ يَكُونُ لَهُ انْقِضَاءٌ. ” (مُرْقُس 3: 22- 26)

 

 

لا زال المسلمون باقين على إيمانهِم الذي يَقول بِأنَّ النَّبِيّ محمَّد (صَلَّى الله عليه وَسَلَّم) هو آخر الأنبياء ” مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” (40)

إذَن لا يَرى المُسْلِمون في داهِشَ نَبِيَّاً. يُؤمِن الدَّاهِشِيُّون إيماناً راسِخاً بِأَنَّهُ ما مِنْ نَبِيٍّ في مَرْتَبَةِ النَّبيِ محمَّد (صَلَّى الله عَليهِ وَسَلَّم) والسَّيّد المَسيح وموسَى عليهما السَّلام يمكن أن يأتي اليوم؛ وذلكَ لأنَّ عَصْرَ الأنبياء الكِبار قَد أفَل منذُ زَمَنٍ بعيد. ومع ذلك فإنَّ عَدداً من أنْبياءٍ، مِن فِئَةٍ أُخْرى – وهُم دُعاة سلام وإعادة إعْمار، قد جاءوا، وكان أحدهُم غاندي. فَفِي أيِّ فِئَةٍ يَقع الدكتور داهِش؟

 

اليهود ما زالوا يَنْتَظِرون مَجيءَ المسيح؛ رَفَضوا السيَّد المسيح عليه السَّلام لأنه لم يَدْخُل في نطاقِ تَوَقُّعاتِهمِ كَمَسِيّا. لقد تَوَقَّعوا أن يأتي المسيَّا لِيَحْكُمهُم كَمَلِك، وأن يُحَرّرهُم من اسْتِعْباد الرُّومان، وأن يُعِيدَ مَجْد اليَهود كما فَعَلَ النَّبِيّ داوود عليه السَّلام تَماماً. لم يأتِ السَّيد المسيح وِفْقَ هذه الصُّورة. كان ابْن نَجَّار، وإنْساناً بسيطاً ومتواضِعاً. وبالمِثْل، فإنَّ المَسيحِيين يَنْتَظِرون مَجِيءَ يسوع المَسيح الثَّانِي. وأنَّه يتزامَن مجيئهُ ويوم الدَّينونَةِ. يتوَقَّعونه أن يأتي بِمَظهَرٍ مُذْهِلٍ وأن يَجْمَع كُلّ مُؤمِنيه. المُسْلِمون أيضاً يتَوَقَّعون مَجيء يَسوع المَسيح الثَّاني ” وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ” ( سورة الزُّخْرُف 61)

بالنّسْبَةِ لأتْباعِ الدكتور داهِش، لقد فات اليهود المَجيء الثَّاني للمَسيح، كما أنَّ المسيحيين والمُسْلِمين قد فَشِلوا في التَّعَرُّفِ عَليه.

مِنَ الآن، يَجِب أن تكون قَد حَزِرْتَ أنَّ حياة الدكتور داهِش تُعْتَبَر المجيء الثَّاني لِيَسوع المَسيح.

رِحْلَةٌ سَعيدةٌ!

 

مُلَخَّص عن المبادِئ الدَّاهِشِيَّةِ الأساسِيَّة

نحن موجودون، إذن الله هو خالقنا.

 

يُرْفَض قُبول أنَّ يسوع المسيع هو الله تعالى.

 

إنَّ جوهر جميع الأديان الرَّئيسيَّة هو واحِد.

 

إنَّ كُل من أنبياء الله عليهِم السَّلام ( يسوع المسيح، موسى، مُحَمَّد، غاندي، بوذا، داهِش، وغيرهم) هُمْ مَقْبولون.

 

إنَّ ادِّعاءَ الكنائس، والمساجِد، والمَعابِد اليَهودِيَّة، وغيرها من المدْعُوَّة دُوْرَاً للعبادة أنَّها تَتَّبِع أُصول تعاليم دينها الأساسِيَّة هو أمر غير صَحيح، كما أنَّ كثيراً منها قد اتَّبَعوا أُناساً مُخادِعين وأشْرار.

 

توجَد علاقة مُتَبادَلَة بين كُل واحِدٍ مِنَّا وبين الله عَزَّ وَجَلّ. لا حاجة لِوجودِ رِجالِ دينٍ كوسطاء.

 

ليست حياتنا سِوى فَصْلٍ صَغيرٍ في سِفْرِ الحَياة. إنَّ الانتقال من مَرْحَلة إلى أُخْرى يَتِمُّ عَبْر التَّقَمُّص.

 

يوجد نِظام عدالة عالَمِيّ يَرْصُد سلوكنا الطَّالح مُقابِل الصَّالِح مُنَفّذاً القصاص المُسْتَحَق.

 

تْرْبِط النَّفس كُلَّ مادَّة وكُل فَصيلة حَيَّة على الأرض بَعْضها بِبَعْضٍ .

 

إنَّ الحياة موجودة (بأشْكال) حَياتِيَّة أُخرى، في جَميع أنْحاء الكون، والسَّيَّالات الرُّوحِيَّة هي جوهَر وجودها.

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفَصْلُ الرَّابِع، الأخْلاق، التَّصَوُّرات، والأيَّام الأخيرة

 

الفَصْلُ الرَّابِعُ

الأخْلاق، وَالَّتصًوُّرات، والأيَّام الأخيرة

 

في مُقَدّمَةِ هذا الكِتاب، ذَكَرْتُ أنَّهُ قبل عشر سنوات، كانت وجهات نَظَرِي حول الحَياة ساذجة فيما يُخُصُّ الصَّداقة والحُبّ. فبَرَغْم الإعْتِقاد السَّائد في الدَّاهِشِيَّة أنَّ الصَّداقَة والحُب نادِرا الوجود في شكلهما الحَقيقيّ على كوكب الأرض، إلَّا أنَّي بِطَريقة أو بِأُخْرى رَفَضْتُّ أن آتي إلى هذا الإسْتِنْتاج، إلى أن تَسَنَّت لي فُرْصَة خوض التَّجْرِبة الإنْسانِيَّة ثُمَّ أن أَتَحَقَّق مِنْها. في القصيدة النَّثْرِيَّة التي كَتَبْتُها:

(هل مُمْكن أن أكون مُرافِقُكَ، سألْتُ أوَّل شخص وَقَعَتْ عيناي عليه.

نَظَر إليّ نظرةً مُبْهَمة، لَمْ يُجِبْ، ثُمَّ واصَل رِحْلَتهُ.

لم أَكُن اعْرِف لِماذا.

كَرَّرتُ السُّؤال نَفْسهُ على كُلّ رجل وامرأة واجهْتُها.

الأكْثَرَيَّة تَبِعَت خطواته، وعدد قليل قَبِلوا عَرْضي.

كَرِفْقَة كان لَدينا فُرْصَة التَّعَرُّف على الآخَر.

كَرِفقة ساعدنا بعْضنا بعضاً عند اشْتداد وعُورة وخُطورة الطَّريق.

كَرِفْقَةٍ وَجَدْنا الإرادة لِمُواصَلَةِ السَّير في الطريق نَفْسِهِ.

كنتُ قريباً جِدَّاً من إحداهُنَّ، وأصْبَحَتْ لي حبيبة.

كَسِبْنا بِضعةَ أصْدقاءٍ عندما كنا في الطريق، وخسِرنا غيرهم كثيرين، لأنهم كانوا قد وصلوا إلى وِجْهَتِهِم.)

 

بعْد مرورِ عَقْدٍ من خِداع الذَات، وَجَدْتُّ من المُناسِب إجْراء تَصْحيحاتٍ لِلقِسْمَيْن الآنِفِ ذكرهما من القصيدة:

“هل ممكن أن أكون مُرافِقُكَ، سألْتُ أوَّل شخص وقعت عيناي عليه.

نَظَر إليّ نظرة بِإبْهامٍ، لَمْ يُجِبْ، ثُمَّ واصَل رِحْلَتهُ.

لم أَكُن اعْرِف لِماذا.

كَرَّرتُ السُّؤال نَفْسهُ على كُلّ رجل وامرأة واجهْتُها.

الكُلّ اتَّبَع خطوات ذاتِهِ، دون قُبول ما قَدَّمْتُهُ له من العَرْض.

وحيداً، تابَعْتُ المَسار.

على مَضَضٍ، وجَدْتُّ الرَّغبة في اتّباع المَسار

لم أَكُن قريباً مِن أي شَخْص

لم أكسَب أي رَفيق أثناء مروري في الطَّريق

 

يُمْكِن للقارِئ أن يَحْتَجَّ بالقول: “إنَّ مُجَرَّد عَدَم تَمَكُّنكَ من إقامة علاقات في الصَّداقة وإيجادكَ/كِ شريكك الخاص في الحياة، لا يَعْني أنَّ غيرك قد فَشِلَ أيْضاً!” وَجوابي لَهُم هو التَّالي، إنَّ تَعْرِيفكَ/كِ للحياة والصَّداقة يخْتَلِف عن تَعْرِيفي. فبالنِّسْبَةِ لِمُعْظَمِ النَّاس، أيَّ شَخْصٍ هو “صَديق” إذا  كان “وِدِّيّ بِما فيه الكِفايَة” وإذا كان يشاركنا مَصالحنا. وطالَما أن هذا الشَّخص يملأ احْتياجنا في الرِّفْقَةِ، فَإن كان يَلْعَب الرِّياضة مَعَنا أو يَضَع ابْتِسامة على وجوهنا ، إذن هو موصوف بالصَّدِيق. هَلْ يُمْكِن لِمِثْلِ هكذا صَداقات الصُّمود في وجهِ الإخْتِبارات القاسِية في الحياة؟ فكم من مَرَّةٍ، ودون عِلْمكَ،  طَعَنكَ في ظَهْرِكَ هؤلاء المَدْعوون أصْدِقاءً؟ وكم من مَرَّة أحَبَّ هؤلاء المَدْعُوُوْنَ أصْدقاءً خيانتك جِنْسيَّاً مع زوجتك ريثما توافيهِم الفُرْصَة؟ إنَّ مُعْظَم هؤلاء المَدْعوون أصْدِقاءً، اليَوم، تَجْمعهُم الإحْتياجات الأنانيَّة المادِيَّة والشَّخصِيَّة.

 

وبالمِثْل، بالنِّسْبَة لِمُعْظَمِ النَّاس، عندما يتجاذَب شخصان مادِيَّاً، مُمْتَلِكان قواسِم مَصْلَحِيَّة مُشْتَرَكَة، يَدّعِي  كل واحِد منهم إذْ ذاك إيجاد (حبيبهِ/ا الحَقيقيّ). فهَل هذا حُبُّ فِعْلاً، أم إنَّها شَهْوَة ورَغْبَة في إيجاد رِفْقَةٍ؟ كم مِن هذه العِلاقات يُمكِن أن تكون سَطْحِيَّة؟ وكم منها مادِيَّةً بَحْتَة؟ وكم منها مَبْنِيّ على أساسِ تَرْتيباتٍ إقْتِصادِيَّة (مادَّيَّة)؟ كم مِن الوقْت سَيَسْتَغْرِق لِكَيْ يُقَرر هو أو هي خَوْضَ غِمار تَجْربة الآخَر جِنسيَّاً؟ والأسْوَأ من ذلك، فإنَّ كثيرين يَقبلون حياة المُثْلِيَّة الجِنْسِيَّة والتَّعَدُّدِيَّة الجِنْسِيَّة   والتَّعدّديَّة (Hetrosexual) على حدٍّ سواء، مُعْتَبِرين إيَّاهما مَشْروعَتان، وكأنَّه باتَ مقْبولاً أن يُحِبَّ الرَّجُلُ رَجُلاً والمَرْأة امْرأة جِنْسِيَّاً بِشَكل عَلَنِيّ تحت شِعار “الحبّ الحَقيقيّ” .

 

بالرَّغْمِ مِن خطورَةِ التَّعْميم، فَإنَّي مع الفِكرة القائِلَة بِأنَّ الحُبّ الحَقيقيّ نادِر الوجود بل مُنْقَرِض. وِفْقاً لِوجْهَة نَظَرِ تَعْرِيفي عن الصَّداقة والحُبّ الحَقيقيّ، فَهُما واحِدُ في كُل شيء ولا عِلاقة لَهُما البَتَّة بالجِنْس والأُمور المادِيَّة. الصَّداقَة هي انْدِماج النُّفوس من خِلال تبادُلٍ للسيَّالات الرُّوحِيَّة، حيث لا يُمكن لِنَفْسٍ أن تَرْغب في شيء لِنَفْسِها بانْفِصالٍ عن الأُخْرى. إنَّها الوِئامُ التَّام، ولا يُمْكِن أَن توجَد على الأرْض دون شيءٍ فيهِ كَمال.

 

ويَنْطَبِقُ الشيء نَفْسَهُ على السَّعادة. تَعْتَقِد مُعْظَم النَّاس أنَّ هدفنا من الحَياة هو تَحْقيق السَّعادة. لكن ما هي السَّعادَة؟ كيف تُعَرِّف النَّاس السَّعادة؟ عِند أغْلَب النَّاس، السَّعادة هي حالة ذِهْنِيَّة تأتي نتيجَة التَّعَرُّضِ إلى لَذَةٍ جَسَدِيَّة، سواء أكان ذلك جِنْساً، قِماراً، رِياضَةً، قيادة سيارة فاخِرةً أو قارِباً، أو عَيْشاً في مَنْزِلٍ جَميلٍ، أو جَمْعاً للمال، أو ذَهاباً في رِحْلَةٍ، أو تَسَلُّقاً لِجَبَلٍ، أو اسْتِلْقاءً على شاطِئ، أو تَرْبِيَةً لِلأطْفال. إنَّ تَعْرِيفي للسَّعادَةِ هو أَنَّها تَعْني عدم وجود الألَم، أكانَ جَسَدَيَّاً أم مَعْنَوِيَّاً. وبِما أنَّ هذا الأمر مُسْتَحيلٌ، فإنَّ السَّعادة لا يُمْكِن أن توجَد على الأرض في وجهها الأنْقى. السَّعادَة غير موجودة في كُلّ ما يَرْتَبِط بالمَلَذَات الجَسَدِيَّة بل هيَ مُجَرَّد الوَهْم.

 

وبما أننا نَقْتَرِبُ من نهاية الألْفيَّة الميلادِيَّة الثَّانِية، نَجِدُ الإنسانيَّة مأْخوذَةً بِهاجِسِ مَلَذَّاتِ هذا العالَم الجَسَدِيَّة إلى حَدّ أن الماديَّة صارَت إلهةً لِكثيرين. وَنَتِيجَةً لِذلِكَ، تَغَيَّرَت أَخلاقِيَّة كثير من النَّاس. أنت بِحاجة إلى المال للحصُول على المُتَع الجَسِديَّة، وإذا لم يكُن لَديْكَ مالاً فَسَتَعْمَل مِثلَ الرُّوبوت للحُصولِ عَلَيْهِ، وقد يقودكَ الأمر من أجلِ ذلكَ إلى السَّرِقة، أو الغِش، أو بيع المُخَدّرات، أو القَتْل. قُمْ بِزيارة المدن الكبيرة في العالَم وانْظُر بِنَفسِكَ. لا يكاد يَمُرُّ يوم هناك دونَ حدوث أَعْمالِ عُنْفٍ كبيرة. تَتَعَرَّض مدارِسنا وأَطفالنا إلى المُخَدّرات وتُجَّارِها. لا يكاد يكون هناك فيلم في المَسارِح دون أن يَحْتَوِي بِوضوح على كلمات نابِيَةٍ ومناظر عُرْيٍ كامِل ومشاهِد جِنْسِيَة. لَقَد بات الأَمر مُنْتَظَراً، فَقد بات الأمر مُخَيّباً إذا حال دون حُصولِ النَّاس على تِلك الأُمور. يَتِمّ اعْتِبار كُل مَن حافَظَ على عُذْرِيَّتِهِ بَعْد تَعَدّيه الثَّامِنة عَشر من عُمْرِهِ شاذَّاً. لقد قَرَأتُ أنَّهُ قُبَيْلَ إنْهِيار الإتّحادِ السُّوفياتّي، قد تَوَرَّطت ما نِسْبَتهُ أربع من خَمس تلميذات مدارِس في إقامة علاقة جِنسِيَّة مُقابِلَ مال.

 

إنَّ الموسيقى التي يسْمعها النَّاس عَبْرَ موجات الأثير، في الحانات، والحَفَلات الموسيقِيَّة، تتَضَمَّن كَلِمات جِنْسِيَّة صَريحة، أو كلمات مُسِيئةٍ للمُسْتَمِع. إن في الإسْتِماع إلى موسيقاها لَتَعْذيب للأُذن والعَقْل. وفي كثير من الأحيان تبدو لي كأنَّها آتية من عوالم سُفْلِيَّة. إذا كان أيَّاً من سادَة الموسيقى كَبيتهوفن او موزارت أحْياءً وتَسَنَّى لهُم سماع الموسيقى التي تُعْزَف اليوم، لانْتَابتْهُم نوبة قَلْبِيَّة دون شَك. حَتَّى أُولئكَ الذين يَدَّعون الإنْتِماء إلى عالَمِ الموسيقى الكلاسيكِيَّة؛ أنَّهُم يَسْتَمِعُونَ إلى مُلَحِّنينَ مِنَ القَرْنِ العِشْرِين فَشِلوا في مُحاكاة أولئك السَّادَة، وبالتَّالي أَنْتَجوا أعْمالاً موسيقيَّة فيها التَّنافُر المُزْعِج للأسْماع بالإضافَةِ إلى خُلوِّها من المُحْتَوَى العاطِفِيّ. لا يخْتلِف عالَمُ الفنون البَصَرِيَّة عن ذلك. إنَّ المَدْعُوِّين بالفنَّانّين الحَديثين الذين يُنْتِجون أعْمالاً تَجْريدِيَّة إنَّما يخْدَعون أنْفُسَهُم والآخَرين. إنَّ “خَرْبَشاتِهِم” لا تَحْمِل أيّ مَعْنى وهِي قبيحَة. النَّحَّاتون المُعاصِرون ليسوا أَفْضَل حالاً. فالبَعْض منهُم غير مَرْغوب فيهم البَتَّة.

 

الرِّجال يَرْتَدونَ الأقْراط، هاجِس المَرْأة هو مُسْتَحْضراتُ التَّجْميل، العُطور، سُمْرَةُ البَشَرة، والملابِس. لقد صار الرّجال والنّساء مَهْووسينَ بأُمور اللياقَةِ البَدَنِيَّة، والرّياضة، وكُل ما يَمْنَح مُتْعَةً جَسَدِيَّة. لقد أصبحت الحانات الأماكِنَ النَّموذَجِيَّة وَمَحَط التِقاءٍ نَموذَجِيّ للرَّجُل والمَرْأة. السُّؤال الذي يُطْرَح هُنا هو، هل هذه علامةٌ تَنُمُّ عن تَقَدُّمٍ أو تراجُعٍ في الحَضارَة؟ لَم يَشهد أي قرن من القُرون إراقَةَ دِماءٍ كما في القَرْن العِشرين. لقد عِشنا حَرْبَيْن عالَمِيَّتَيْن، ونِزاعاتٍ إقْليمِيَّةٍ أُخْرى.

 

في بَعْضِ الأحْيان، يكون نِظام العَدالة في جَميعِ أنحاءِ العالَم مُنْحازاً للغايَة، حيث تُؤَثّر عليه الجماعات السّياسِيَّة والدّينِيَّة بِشِدَّة، وفي مَرَّاتٍ أُخْرى يَعْتَريه الفساد التَّام. بعْض القرارات المُتَّخَذة من قِبَل الأُمم المُتّحِدة هي مُنْحازة؛ فالنِّظام ذو المَعايير المُزْدَوَجَة الذي يَتِم تطبيقهُ بانْتِظام يُسَيْطِر عليه اللاعبون الأكبر (أيْ الدُّوَل الصّناعِيَّة الكُبْرى). فإلى مَتى سُتكابِد الإنسانِيَّة البَقاء تحْت ظِلِّ هذا التَّدَنّي في القِيَم والأخْلاقِ الفاضِلة؟

 

الكُتُب المُقَدَّسة تَتَحَدَّث عن يوم الدَّينونة أو يوم القيامة وتَصِف العلامات التي تُوَضِّح مَجيءَ ذلك اليوم. إنَّ يوم القيامَة سَيُنْهي دورة الحياة الحالِيَّة ويَبْدأ دورة حَياتِيَّة أُخْرى؛ لكن، ليس من الضَّرورة أن تَبْدَأ الدَّورة الحياتِيَّة مُباشَرة بعد دَوْرَةِ الحَياة الحالِيَّة. قَدْ يسْتَغْرِق أمْرَ بدْءِ دَوْرةِ حياة جَديدة آلافاً بَلْ ملاييناً من السِّنين.

 

هذا ما سَيكون عَليه الحال إذا ما شُنَّت حَرب نَوويَّة واسِعَة النّطاق، مُنْشِئةً إشعاعات قاتِلة من شأنها إطفاء الحياة على الأرْض لِمُدَّة طَويلة. وَقَدْ تنشأ دورة حياتيَّة جديدة فور نهاية هذه الدَّورة الحَياتِيَّة. وذلك تماماً كما بدأت الدَّوْرة الحياتِيَّة الحالِيَّة مع نوح وعائِلَتهِ بَعْدَ الطُّوفان مع عدد قَليل من النَّاس والحيوانات النَّاجِية التي أَعادتْ إسْكان الأرْض، فَمِن المُمْكِنِ أن يَجْري انْتقال مُماثِل في المُسْتَقْبَل، لكن هذا الأمر غير مُرَجَّح.

وكَما وَرَدَ في كِتابِ العَهْدِ الجَديد:

26 وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا فِي أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ

27 كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُزَوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَجَاءَ الطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ

28 كَذلِكَ أَيْضًا كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ: كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ

29 وَلكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ، أَمْطَرَ نَارًا وَكِبْرِيتًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ ( لوقا 17: 26- 29)

 

مكتوبٌ في القُرآن، ” وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا۟ ۙ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُوا۟ لِيُؤْمِنُوا۟ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ 13

ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰٓئِفَ فِى ٱلْأَرْضِ مِنۢ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ

(سورة يونُس 13- 14)

 

” يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ 104 وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ  105 (سورة الأنبِياء 104-105)

 

مكتوب في العَهْدِ القَديم،

 

1 هوَذَا الرَّبُّ يُخْلِي الأَرْضَ وَيُفْرِغُهَا وَيَقْلِبُ وَجْهَهَا وَيُبَدِّدُ سُكَّانَهَا.
2 وَكَمَا يَكُونُ الشَّعْبُ هكَذَا الْكَاهِنُ. كَمَا الْعَبْدُ هكَذَا سَيِّدُهُ. كَمَا الأَمَةُ هكَذَا سَيِّدَتُهَا. كَمَا الشَّارِي هكَذَا الْبَائِعُ. كَمَا الْمُقْرِضُ هكَذَا الْمُقْتَرِضُ. وَكَمَا الدَّائِنُ هكَذَا الْمَدْيُونُ.
3 تُفْرَغُ الأَرْضُ إِفْرَاغًا وَتُنْهَبُ نَهْبًا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلَّمَ بِهذَا الْقَوْلِ.
4 نَاحَتْ ذَبُلَتِ الأَرْضُ. حَزِنَتْ ذَبُلَتِ الْمَسْكُونَةُ. حَزِنَ مُرْتَفِعُو شَعْبِ الأَرْضِ.
5 وَالأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا الشَّرَائِعَ، غَيَّرُوا الْفَرِيضَةَ، نَكَثُوا الْعَهْدَ الأَبَدِيَّ (أشعياء 24- 1-5)

 

لقد مَرَّتِ الأرْض بِمئاتٍ من الدَّورات الحَياتِيَّة. أثناء هَذِه الدَّورات، كان سُكَّان الأرْض يَصِلون إلى درجة مُعَيَّنة من الشَّر والإثم، وذلك بِرَغْمِ تَحْذيرات الأنبياء في تلك العُهود، الأمر الذي جعل الخالِق يَرى أَنَّهُ من الضَّرورِي تَدْمير الحَضارة والبَدْء من جَديد. كل العلامات تقودني للإيمان بأن دورة الحَياة الحالِيَّة على وشك الإنْتِهاء. كل نبوءات الكُتُب المُقَدَّسة آخِذة في التَّحَقُّق. ” وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ” (مرقس 12:13)”

 

7 لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ.
8 وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ.
9 حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيق وَيَقْتُلُونَكُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي.
10 وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
11 وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ.
12 وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ.
13 وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ.
14 وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى.” (مَتَّى 24: 7-14)

 

لقد أصْبَحَ العالَم مادّيَّاً جِدَّاً. تَفْعَل النَّاس أيّ شيء مُقابِل المال. لَقَد أَصْبَحَنا في تشويشٍ جِدَّاً في هذا الوجود. بات الأصْدقاء الحَقيقيين مُنْعَدِمِين. لقد صار تَعَلُّق الأصْدِقاء ببعْضِهِم البَعْض اليوم مَبْنِيَّاً على الإحْتياجات المادِيَّة والشَّخْصِيَّة، كذلك الحب الحقيقيّ نادر بِنَفْسِ النِّسْبة، كما تَعْتَمِد مُعْظَم الزِّيجات على الإحتياجات المادِيَّة والتَّرْتيبات الإقْتِصادِيَّة. الشَّر على الأرْض آخِذٌ في ازْدِياد، الأخلاق آخِذة في التَّرَدّي، وأصْبَحَ الإنْحِراف الجِنْسِيّ والمَجُون مَقْبولاً في الحياة بالنِّسْبَةِ للأغْلَبِيَّة، وهو يَتَجاوَز بِكَثير فُجور أهل سدوم وعامورة. بدأت بعض الكنائس بإجْراء مراسيم زواج لِمُثْلِيي الجنس سواء أكانوا ذكوراً أم إناث.

”   1 وَلكِنِ اعْلَمْ هذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ،
2 لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ،
3 بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ،
4 خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ للهِ،
5 لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هؤُلاَءِ.
6 فَإِنَّهُ مِنْ هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ، وَيَسْبُونَ نُسَيَّاتٍ مُحَمَّلاَتٍ خَطَايَا، مُنْسَاقَاتٍ بِشَهَوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
7 يَتَعَلَّمْنَ فِي كُلِّ حِينٍ، وَلاَ يَسْتَطِعْنَ أَنْ يُقْبِلْنَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَبَدًا.” (2 تيموثاوس 3: 1- 7)

 

أَمراضٌ مِثل السَّرطان والإيدز آخذة في الإنتِشار، البِيئة تُدَمّرها الأمْطار الحِمْضِيَّة، والتَّلوُّث، وانتهاكات أُخْرى من الجِنْسِ البَشَرِيّ، ثُمَّ تَدَهْور طَبَقة الأوزون. عندما يَتَضاعف عدد سُكَّان الأرْض في السّنين القليلة المُقْبِلَة، فسوف تُصْبِحُ هذه المشاكِل أكثر وضوحاً. لقد أصبح التَّدمير الذَاتي من أكثر الأُمور رَجاحَةً.

 

نحنُ في فَترة خطيرة جِدَّاً، إنَّهُ وقت يمكن لمُتَطَرِّف فيه أن يمتلك سلاحاً نوويَّاً، أو أن يُصْبح زعيم أُمَّةٍ مُتَمَكّنة من تطوير أسلحة دمارٍ شامِلٍ. ” وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ” (مَتَّى 24-29)

 

10 ولكن سيأتي كلص في الليل، يوم الرب، الذي فيه تزول السماوات بضجيج، وتَنْحَلّ العَناصِر محترقة، وتَحْتَرِق الأرض والمصنوعات التي فيها (2 بطرس 3: 10)

 

وفقاً للعالِم كارل ساغان، يَحْدُثُ في أَعْقابِ نُشوب حَرْبٍ نوويَّة، أَنَّ الغُبار والدُّخان النَّاتِج من الإنفِجارات يَبْقى في الجَو لِفَتْرَةٍ طويلَةٍ مانِعاً أَشِعَّة الشَّمْس من الوصول إلى سَطْحِ الكوكَب. هذا سَيَمْنَع سَطح الأرْض من امْتِصاصِ الحَرارة، الأمر الذي سَيُؤَدّي إلى هُطولِ ما يُعْرَف بظاهِرة “الشِّتاء النُّوَوِيّ.” الأمر الذي يُؤَدّي إلى انْخِفاضٍ في دَرَجاتِ الحَرارة، مِمَّا يجعل الأرض أقَلَّ مُلاءمَةٍ للحياة. فإذا قُدّر لِبَعْض النَّاس النَّجاة على الفَوْر من التَّدمير والإشعاعات الواسِعة النّطاق النَّاتِجة عن الكارِثة النُّوَوِيَّة فَقَدْ لا تَتِمّ لهم النَّجاة من جَرَّاء الشّتاء النُّووي.

 

في العام 1945 نَشَرَ الدكتور داهِش كتاباً بِعنوان مُذَكّرات دينار، حيث تقوم عُمْلة نَقْدِيَّة وهي الدّينار بِروايَةِ قِصَّةِ حياتِها، وذلك ابتِداءً مِنْ لَحْظَةِ اسْتِخراجها من مَنْجَمِ المَعادِن. يروي الكتاب كيف تَحَوَّلَ المَعْدن إلى عُمْلة نَقْدِيَّة، وكيف أَّنَّها انْتَقَلَت مِن مالِكٍ إلى آخَر على مَدى عُقودٍ، وما كان النَّاس يَفْعَلونَهُ للحُصول عَليها. يَتَحَدَّث الكِتاب أَيضاً عن الدَّمار غير المُتَوَقَّع والمُخيف للأرْض. ووِفْقاً للكِتاب، أَنَّهُ في حين أَّنّ كِلاً من الولايات المُتَّحِدَةِ الأمْرِيكِيَّةِ وروسيا يقْبَعان تحت ظِلّ سلامٍ زائِفٍ؛ سَتقوم دولة غير مُشْتَبهٍ بِها بِإطْلاق أسْلِحَةٍ نوَوِيَّةٍ وبالتَّالي تَدْمير الأرْض. فَهل فِعْلاً سَيَحْدُث هذا أم لا؟

 

قد يبدو هذا الأمر بَعيد المَنالِ بالنِّسْبَةِ لكَ، لكن بَعْض الظُّروف التي مِن شأنها أن تُقود في طَّريق هذه الحادِثة ما زالت موجودة. لقد انْهارَ الإتّحاد السُّوفياتي، كما أن روسيا والولايات المُتَّحِدة الأمريكِيَّة يُخَفّضان من تَرَسانتهما النُّوَوِيَّة. الإنفاق على قُوَّة الدّفاع من قِبَلِ القُوى العُظْمى قد انْخَفَضَ، وبالتَّالي باتَتْ حِيازَة أسْلِحة نُوَوِيَّة من قِبَل دولٍ أُخرى أَكثَر سُهولَة.

 

قَد يَتَساءَل البَعْض عن سَبب  أنْ لا مَفَرَّ مِنَ التَّدْمير. تَذَكَّر أنَّ هذه الحياة ليسَت سِوى فَصْلاً صَغيراً مِن وجودنا، وأَنَّهُ قد تَمَّ مَنْحنا فُرَصَاً تِلْوَ أُخْرى. لكن، إذا لم نُغَيّر من سُلوكنا وتَصَرُّفاتنا فقد يأتي ذلك الوقت الذي نَجْنِي فيه نتائجَ عَكْسِيَّة. إذا كان التَّدَنِّي الحالي للأخْلاق قد أعطى إشارَة ما، فهذا يَعْني أنَّ أغلب النّاس قد تَدَنَّتْ أَخلاقهم اليوم. ثَمَّة شيء آخر يجب أخْذهُ بِعَيْن الإعْتِبار وهو أنَّه مع وجود الإساءة المُسْتَمِرَّة للطَّبيعة، فَسَيُصْبِح أمر اسْتمرار دعْم الأرض للحياة صَعْباً دون اللجوء إلى مصاعِب شَديدة. سواء أَكان ذلك إزاء إنتشار الأمراض السَّريع، أو أمراض الجِهاز التَّنَفُّسِيّ والأمراض النَّاجِمة عن تَلَوّث الهواء والمياة والطَّعام. قَد يكون دمار الأرض رحمة من الله تعالى بكل ما للكلمة من معنى. 

الفَصْلُ الثَّالِثُ، واقِعُ الحَياةِ وغُموضها

الفصل 3

واقع الحياة وغُموضها

 

إنَّ العَديد من الأُمور التي نَتَّخذها في الحَياة على أنَّها على وجه اليَقين،  هي ليست بالبَساطة كما نَظُن. على سَبيلِ المِثال، ما هو أكثر بساطة من هطول المَطَر في حَدِّ ذاتِهِ؟ الأمطار تُزَوّد الآبار لَدينا، تَرْوي الأرض بِحَيث يُمكِن للنَّباتاتِ أَن تَنْمُو، وَتُوَفّر مياه الشُّرْب لِكُلِّ المَخْلوقات، تزيلُ التَّلَوُّث من الجَو، وهي مصدر مياهٍ  لِغَسْلِ ملابِسنا وسَيَّاراتِنا وللإسْتِحْمام. لكن، وفي الوقْتِ ذاتهِ، تَسْقُط أمطارٌ كثيرة في منطقة مُعَيَّنة بِحيث تُسَبّب فياضاناتاً وأضْراراً في المُمْتَلَكات، خسائر في الأرْواح، وغيرِها من المَصاعِب. الناس يدعون هذا الشيء فِعْل طبيعة أو سوءِ حَظ، لكن لِماذا اسْتَهْدَفَ فِعْل الطَّبيعة هذا منطقة جُغْرافِيَّة مُعَيَّنَة (دون سِواها)، لِماذا يضرب الإعْصار مُدينة مُعَيَّنَة (دونَ غَيرِها)؟

”   أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِمِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴿٤٣﴾” سورة النور 43

إذا كُنْتَ تَعْتَقِد أنَّ مِثْلَ هذا الفِعل العنيف للطَّبيعة هو ليس إلَّا حدوثاً عَشْوائيَّاً، فما عليك إلا إعادَة النَّظَر. إذا كان طوفان نوح عَشوائِيَّاً فهكذا تكون الحوادِث أيضاً . فَعلى الرَّغم من عدم تَمَكُّننا من ملاحظة الأمر، إلَّا أنَّهُ يوجد نظام عدالة (السَّبب والنَّتيجة) يَحْكُم العالَم الذي نَعيش فيه. لا يمكن لشيء ذي معْنى أن يحْدُث عَشْوائِيَّاً أو بِدون سَبب. “الحَظ” لا وجود لهُ. عندما تُقامِر وترمي حَجَرَيّ النَّرْد ستكون النَّتيجة إحْصائيَّة بَحْتة. إذا رميت حَجَرَي نرْد وجاء بِنتيجة سِتَّة سِتَّة ، فذلك لأنه كانت لديك فرصة واحِدة من الرَّمْيَة وهي 36(6*6) . ليس لِحَوادِث كهذه أيّ معنى كما أنَّها لا تَخْدِمُ أي غَرَض.

 

من ناحية أخْرى، لِنَفْتَرِضَ أنَّهُ أَثْناءَ القِراءة، حدث أنَّك شَعَرْتَ بِرغبة في الذَّهاب إلى السُّوق لابْتِياع حَليب. ويحْدُث أَنَّه بينَما كُنْتَ تقود سيارتك إلى  المَتْجَر، تَظْهر سيَّارة ما فَجْأة كما من الغَيْب، تُخالِف إشارة الوقوف، ثم تَصْطَدِمُ بسيارَتك فَيُصاب السَّائق الآخر إصابة بالِغة لكن دون أن تُصابَ أنتَ بِأَذى. هل حَصَلَت هذه الحادِثة عَشْوائِيَّاً؟ أمْ كان من المُفْتَرَضِ أن تَحْدُث؟ يُقْسِم السَّائق الآخر بأنَّهُ لم يُشاهد إشارة الوقوف. تُرى ما الذي حَدَا بِكَ إلى الخروج في ذلك الوقت بالذَات؟ لماذا حَصَلَ ذلك الحادِث؟

 

قد يَضْرِب زلزالٌ مدينة ما فيُسَبّب أَضْراراً جَسيمَةً للمباني؛ والبَعْض منها قد يَهْوِي. فَتَهُبُّ فِرَق الإنْقاذ على الفور ويعملون على مدار السَّاعة للعثور على ناجين. يحْدُث أنَّهُ بعد أيَّام مِن دَفْنها تَحْتَ الأرْض يَتِمّ إنقاذ شَخص، باسْتثناء جميع أفراد أسْرته الذين وُجِدوا أمواتاً. هل هذا حَظٌّ؟  لماذا ضَرَب الزّلزال هذه المدينة بالذَّات كَمَقامٍ أَوَّل؟ لماذا نُكِبَ بعض الأشخاص في حين أن غيرهم لم يُصيبهُ أذى البَتَّة؟ لماذا يَبْقى شخصاً واحداً على قيد الحياة بينما تقضي أفراد أُسْرَتهُ كافَّة؟ لماذا يُكابد هذا النَّاجِي آلاماً وعناءً كبيراً؟

” مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” (سورة الحديد 22)

 

يَحْدُث أيضاً أن يُقَرِّرَ راكبُ طائرةٍ مَدَنِيَّة أن يُغَيّر رِحْلتهُ في اللحظة الأخيرة. وَفي وَقْتٍ لاحِق، يَسْمَع في الأخْبار نَبَأَ تَحَطُّم طائرة رُكَّاب وموت كُلّ رُكَّابِها. لِذهوله، كانت الطَّائرة عَيْنَها التي كان مِنَ المُفْتَرَضِ أن يَصْعدها. ما الذي جَعَلهُ يُغَيّر جَدْوَل سَفَرهِ في تلكَ اللحْظة؟ أكانت ضَرْبة حَظ أنَّه غاب عن رِحْلتهِ؟ أم أنَّ الأمر كان مُدَبَّراً مُسْبَقاً بِطريقة ما أو بِأُخْرى؟ طائرة ما تتحَطَّم، وقليل من الرُّكَّاب تتسَنَّى لهم النَّجاة. لماذا يتَسَنَّى لرُكَّاب مُعَيّنين أَن يَبْقوا على على قَيْد الحَياةِ وليس غيرهم؟

 

لِماذا تَجْري الحوادث؟ هل هي ما نعْتَقِدهُ عَنْها أمْ أنَّها ترتيبات مَدْروسَة؟ يُمْكِن أن تكون قد سَمِعْت هذه العبارة في الفيزياء التي تَصِف مَبْدأ القُوَّة: ” لِكُل فِعْلٍ رَدَّة فِعْل مُساوية لَها في المقدار.” في النّظام الشَّامِل العادِل الذي نَعيش تَحْتَهُ، يُطَبَّق نَفْس المبدأ لكن العِبارة المُسْتَخْدَمة في وَصْفِهِ هي ” السَّبب والنَّتيجة”. أيْ أنَّهُ لِكُل سبب هناك تأثيرٌ مساوٍ. يكون هذا التَّأثير إمَّا سَلْبِيَّاً أو إيجابِيَّاً. إذا أَلْحَقْتَ ألماً بِشَخْصٍ ما فلا بُد أن يُسَلَّط عليك الألم عَيْنَهُ. إذا غَشَشْتَ أو سَرَقْتَ فسَتَدْفَع ثمن ذلك لِضحاياك أكان بِطوعك أم لا. ومِن ناحِية أُخْرى، إذا كُنْتَ تَعيش باسْتِقامة ولا تَفْعَل سوى الخَير فَسَتكون النَّتيجة إيجابِيَّة، وسَتَتِمّ مُكافأتكَ أكان في هذه الحياة أو في الحيوات القادِمة. تُلَخّصُ رُدود الفِعْل السَّلبِيَّة والإيجابِيَّة هذه ما يَحْدُثُ لنا في واقِعِ الحياة. وحتَّى لو اسْتَغْرَقتْك عشرات التَّقَمُّصات، فَسوف يكون هناك ردَّات فِعْل لِكُل فِعْل تَعْمَلهُ. ليس من الممكن تماماً أن تكون لِنتائج أعمالك تأثيراً في هذا العالَم فَحَسْب بل في غيرهِ أيضاً.

تَذَكَّر أيضاً: ” وَقارونَ وَفرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهمْ موسى بالْبَينات فَاسْتَكْبَروا في الْأَرْض وَما كانوا سابقينَ (39) فَكلًا أَخَذْنا بذَنْبه فَمنْهمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْه حاصبًا وَمنْهمْ مَنْ أَخَذَتْه الصيْحَة وَمنْهمْ مَنْ خَسَفْنا به الْأَرْضَ وَمنْهمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ الله ليَظْلمَهمْ وَلكنْ كانوا أَنْفسَهمْ يَظْلمونَ (40)” (سورة العنكبوت 39- 40)

من هنا يأتي الطَّمس الكبير، فإذا وُضِعَتْ تعاليم السَّيّد المَسيح التي تقول: “ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا ” (مَتَّى 5: 39)   مَحَلَّ المَبدأ القائل ” عين بِعين وسِنٌّ بِسِنٍّ” فهل يَعْني هذا أن اليهود قُد عُلّموا بِشَكْلٍ غير صحيحٍ؟ كيف يُمْكِن لدين بَلَدٍ ما أن يقول شيئاً ثُم يتمّ نَقْضَهُ من قِبَل دينٍ مُكَمِّلٍ؟ لِسوءِ الحَظّ، إنَّه يَتِم تَأويل مَبْدأ عين بِعين على أنه عليك أخذ ثأرك بِيَدِكَ، لكن ليس بالضَّرورة أن يكون هذا ما عَنَاهُ القَوْل. إن السَّبب والنَّتيجة (الفِعْل ورَدَّة الفِعْل) هي تِلْقائِيَّة، وحَتَّى بعد تَقَمُّصات كثيرة، ستظهر النَّتيجة أو رَدَّة الفِعْل نَفْسها على أنَّها، في المَقام الأوَّل، فُرْصة لِتَسْوِيَةِ حِسابٍ مع فَرْدٍ تَسَبَّب في إيذائِكَ. وَبِمُجَرَّد وصول هذه الفُرْصَة، ستَتِمُّ لك النّقْمة، وإذ ذاك تُقْضى حاجة نِظام العدالة الشَّامِلة الذي نَعيش تَحْت ظِلّهِ. هذه ليست دَعْوة إلى العُنْف: إنَّ تَصفية الحِسابات قد تتجلَّى على شَكْلِ “حادِث.” (أيْ، حادِث تمَّ ترْتيبهُ مُسْبَقاً من قِبَل قُوَّاتٍ روحِيَّة) وذلك بِغير معْرِفَة الشَّخص المَعْنِيّ. في بَعْضِ الحالات، تكون ْفُرْصة الإلحاق بالأذى مُقَدَّمة على شَكْل خيار، عندما تنشأ هذه الفُرصة، يكون الخيار لنا في اتّباع تعليم السَّيّد المَسيح علية السَّلام فَنَغْفِر. وبهذا يُمْكننا رفع نفوسنا إلى مُسْتوى أعْلى.

 

يَسْمَح بَلَد ما لِفَرْدٍ أن يُصْبِحَ قائداً، فإمَّا أن تَنْتَكِسَ البِلاد أَثْناءَ حُكْمِهِ أو تَزْدَهِر. أن يُصْبِح الفَرْد قائداً ليس أَمْراً عَشوائِيَّ الحُدوث. إنَّ شَعْب هذا البَلد يَسْتَحِقّ أن يكون هذا زعيمهم. على سبيل المِثال، قاد أبراهام لينكولِن الولايات المُتَّحِدَةِ الأمريكيَّة خلال فترة حرب أهْليَّة دامِية، ولكن نتيجَة لِذلك، تَمَّ الحِفاظ على الإتّحاد، وأُلغِي شَرّ العُبودِيَّة. فقد اسْتَحَقَّت الولايات المُتَّحِدة الأمريكيَّة رئيساً مِثل لنكولِن. ونتيجة لِذلك، ازْدَهَرت البلاد وأصْبَحَت أَعْظَمَ أُمَّةٍ على الأرْض. من الصَّعْب تَصَوُّر ماذا كان سَيَحْدُث لو كان الشّمال قد خَسِرَ الحَرْب الأهْلِيَّة، أو إذا كان الإنفصال عن الإتحاد قد مَضى دُون مُواجهةٍ.

 

ما الذي يُمْكِن أن يكون أَكثر تَدْميراً من الحرب العالمِيَّة الثَّانِيَةِ وقتل ملايين النَّاس من جميع الأُمَم، ومُعاناة مِئات المَلايين، والتَّدمير الفِعْلِيّ لِمُعْظَمِ أُوروبَّا؟ بالنّسْبَة لِمُعْظَمِ النَّاس، كانت الحرب العالَمِيَّة الثَّانِية تَطَوُّراً مُؤسِفاً من الظُّروف والحوادِث التي مَهَّدَت الطَّريق إلى وقوعها، لكن في الحَقيقة، لم تَكُن سِوى خطَّة واسِعة ومَدروس تنفيذها نَشَأتْ من قِبَل السُّلْطَة الإلهيَّة. كيف يُمكن أن تَسْمَح السُّلْطَة الإلهِيَّة بِحدوث مِثل هكذا رُعْب؟ إنَّهُ في ظِلّ النّظام الشَّامِل للسَّبب والنَّتيجة، لم يَكُن لِمِثْل هكذا أذى أن يُلْحِقَ ضَرراً بالنَّاس لو لم يَحِيدوا عن السُّلوك في الحَق في حياة أو حَيَواتٍ سابِقة.

 

ولَعَلَّكُم تَذْكُرون من قِراءتكم الخاصَّة في العَهْدِ القديم عندما احْتَضَنَت إسرائيل الشَّر وعَبَدَت آلِهة آخرين، فَسُمِح لِدول أُخرى بالتَّغَلُّبِ عليها، قاتِلين عشرات الآلاف، مُلْحِقين بِهِم الضَّرر والرِّق والمَشَقَّة على مَنْ تَبَقَّى. فإذا قَبِلْنا أن هذه الأحْداث قد تَمَّت من قِبَلِ الله تعالى، فَلِماذا يجب أن تكون لدينا المُشْكِلة في قُبول أن الحروب الأخرى كانت أيضاً مُرَتَّبة منهُ عَزَّ وَجَلّ؟

 

ما الذي فعله شَعْب الإتّحاد السوفياتي السَّابِق ليَسْتَحِقّ 75 سَنة من قَمْعِ الحُرِيَّة، وأوضاع إقتصاديّة دون المُسْتوى، ثُمّ التَّخَلُّص القَهْرِي من ملايين المواطِنين من قِبَل ستالين؟ وحدهُ الله تعالى يَعْلَم السَّبَب، لكن لو لم يكن هؤلاء النَّاس قد انْحَرَفوا ، في حياةٍ سابِقة، عن حياة البِرّ والسُّلوك القَويم، لَما كانت لِتلك الأحْداث أن تَجْرِي لَهُم. إنَّ السُّلوك الذي أدَّى إلى تلك الظُّروف المُؤسِفة قد لا تكون قد نشأت داخِل حُدود ذلك البَلَد. على سَبيل المِثال، قد يكون مواطناً أمريكيَّا قد صَنَعَ أشياء شِرّيرة كثيرة في الحياة، وَكَعِقابٍ جُزْئِيّ، كان عليه أَن يَعيش حياتهُ أو حياتها المُقْبِلَة في بَلَدٍ تُقْمَع الحُرِيَّة فيها، مِثل الإتّحاد السُّوفياتي السَّابِق.

 

كيف نَضَع الحَدّ الفاصِل بين ما هو مُقَدَّر وما هو ليس كذلك؟ إذا تَذَكَّرَت البَشَر حياتهم السَّابِقة، سيكون الأمر أكثر سهولة، لكننا لا نَتَذَكَّر.  إذا قَرَّر شخص ما شُرْب أو تناول الكُحول، ثُم في وقت لاحِق قاد سيَّارتهُ، وحَدَث أن تَوَرَّط في حادث سيَّارة أَدَّى لِإصابَةِ السَّائق الآخر بجروحٍ بَليغةٍ، فهل هذا يعني أنَّ السَّائق الآخر  كان مُسْتحِق أن يحْدُث له هذا الأمْر، ليس بالضَّرورة. إنَّ الشَّخص المخمور أو المُدْمِن على المُخَدّرات قد ألحَقَ ضَرراً بِغَيْرِهِ، ونتيجة لِذلك، فإنَّ العدالة الشَّامِلة سَتُؤَدّي دورها أكان في هذه الحياة أو الحَيوات المُقْبِلَة. هل تَظن أن الشُّرب بِإسْراف قد نهَت عنه جميع الأديان دون سَبب؟ عندما يَفْقِد شخص ما سَيْطَرَتهُ على نَفْسِهِ أو نَفْسِها عَمْدَاً ثُم يَقْتَرِف أعمالاً تُلْحِق الأذى بِغِيْرهِ فإنَّ ذلك الشَّخص مَسْؤول عن أعْماله.

 

قد يَحْتَجّ البَعْض قائلاً: ” ما هو الضَّرر في شُرْب أو اسْتِعْمال المُخَدَّرات بِخصوصِيَّة في بيوتِنا حيث لا احْتمال في التَّسَبُّب بِضَرَرٍ على أي شخْص؟” أَوَّلاً، إنّ تخدير الشُّعور للخروج من الواقِع ليس هو الحَل، ثانِياً، كثير من الأطفال على مَرّ التَّاريخ قد ذهبوا إلى فراشهم جائعين، عُراة، وذلك لأن آباءهُم قد بَذَّروا أموالهُم في القِمار، المُخَدَّرات والقِمار. في حِين أَنَّهُ كان من المُمْكِن إنْفاق هذه الأموال لِشِراء الغِذاء والكِساء والتَّعْليم الجامِعِيّ. لا يوجد خطأ في إسْتِهْلاك كَمّيَّات مُعْتَدِلة مِنَ الكُحول الخَفيفة، لا سيما مع الوجبات. بَعْد كُل شَيء، لقد حَوَّل السَّيّد المَسيح عليهِ السَّلام الماء إلى خَمْر، كما اسْتَنْفَد نبيذاً مع تَلاميذِهِ خِلال العشاء الأخير. لكن تَبْذير الأموال في رَذائل تافِهة هو أمر غير مُناسِب، حَتَّى وإن كُنَّا لا نُلحِق أذى بِآخرين. فَعَلى نَحْوٍ أفْضَل، يُمْكِن إنْفاق هذه الأموال على النَّاس المُحْتاجين، أو في القَضايا النَّبيلة.

 

إفْتَرِض أنَّك تقود سَيَّارَتك، وفَجْأَةً، تَقْطع قِطَّة ما الطَّريق مُباشَرةً أمامك، فهل تَضْرِب الفرامِل مُحاوِلاً تَجَنُّب قَتْلَها؟ أَم تُتَابِع قيادَتكَ كأَنّ القِط شيء يُسْتهان بِه؟ إذا بَذَلْتَ أفْضَل ما لَديك لِتَجَنُّب الإصطِدام وأخْفَقْت فأنْتَ غير مُلامٍ، فهكذا قُدِّرَ للأُمور أن تَجْري. إذا نَجَحْت في تفاديها فَسَتَشْعُر بالرِّضا وسَتَشْكر الله تعالى على عدم قتل الحيوان أثناء وعْيِكَ. لكن، إذا لم تُحاوِل تفادي صَدْم القِط فَمِنَ المُتَوَقَّع أنَّكَ مَسْؤول عن ذلك وستنال عقابَاً ما في وَقْتٍ لاحِق. في بَعْض الأحيان، النَّاس لا يُدرِكون أن للقِطَّة حقوق مُساوية للإنسان في الحياة، إذ يُمكن أن تكون لديها جِراء، وحياة الجِراء مُعَلَّقة عليها، أو أنَّها قد تَنْتَمي لأُناس مُتَعَلّقُون بِها جِدَّاً. الأمر نَفْسهُ ينطبِق على الحيوانات المُتوَحِّشة سواء بِسواء فيما يَخص الإصْطدام بها.

 

قد يكون شخص ما في حالَةٍ صِحّيَّةٍ جَيّدَة ويَعيش حَياةً مُرِيحة. هذا الشَّخص قد يَتَزَوَّج، و في وقت قريب، تقَع عليه/عليها كوارِث، الواحِدة تِلوَ الأُخْرى، الأمر الذي يَمْلَأ قَلْبَهُ حُزْناً. وقد يُصيب شخص آخَر العَكس تماماً عند زواجه: أي أنَّ يُسْتَبْدَل الفَقْر بالثَّراء، فَتَمْلأ البَهْجة قَلْبَهُ. هل هناك علاقة بين هذه الزِّيجات والتَّغيير الدرامِي في حياة كُل من هَذين الشَّخْصَيْن؟ في رأيي يوجَد ذلك.

 

عندما يَتَزَوّج النَّاس أو عندما تكون لَديهِم مُجَرَّد علاقات جِنْسِيَّة، فإنه يتِمّ بينهم تَشارُك السَّيالات الرُّوحِيَّة تلقائِيَّاً، الأمر الذي يُمَيّز كُلَّ فَرْدٍ مِنهُم في الحَياة. وبالتَّالي تُؤَثّر حياة الرُّجُل في المَرْأة، وكذلك حياة المَرْأة في الرُّجُل. قد يكون هذا التَّأثير إيجابِيَّا، أو سَلْبِيَّاً أو الإثنين مَعاً. إنَّهُ من المُمْكِن جِدَّاً أن يكون التَّأثير إيجابِيّ في بَعْضِ النَّواحِي ، وفي نَفْسِ الوقت يكون التَّأثير سَلبِيَّاً في نواحي أُخْرى. في رأيي، إنَّ المَثَل الشَّائع القائل: “وراء كُل رَجُل عَظيم امرأة” يجب إسْتِبْدالهُ بِ ” خَلْفَ كُل رَجُلٍ عَظيم، امْرأة؛ وَخلْف كلّ امْرأة عظيمة، رَجُل؛ وَخلف كُل رَجُلٍ بائسٍ، امْرَأة؛ وخَلْفَ كُلّ امرأة بائِسَةٍ، رَجُل.”

 

هذا لا يَعْني أن يكون الهُجوم هو على الزَّواج، فَسواء أحْبَبْنا ذلك أم لا، إنَّ حياة الرَّجل والمرأة في غيابِ أَحدهما عن الآخَر يمكن أن يحْمِل الفراغ والألَم. وفي الوقت ذاتهِ، إن محاوَلة التَّفْتيش عن شَريك تتوافَق سَيَّالاته وسَيَّالاتكَ لَهُوَ مضْيعة للوقت. إنَّ السَّيَّالات الرُّوحِيَّة غير مَرْئيَّةٍ و ليس باسْتِطاعتك تَقَصِّيها في بَحْث.

 

لا أَحد يَعْرِف كيف يُمْكِن للزَّواج أَن يُؤَثِّر في حَياتِكَ أو حَيَواتِكَ المُقْبِلَة. إنَّ نِظام السَّبب والنَّتيجة لا بُدّ حاصِل. على سَبيلِ المِثال، إذا كانت زوجَتكَ قد ارْتَكَبَت أعْمالاً مُرَوِّعة في حَياةٍ سابِقةٍ، ونتيجة لِذلك، حَدَث أن أصابها الشَّلل التَّام أثناءَ زواجِكُما، فإنَّكَ قد تَضْطَر إلى إنْفاقِ جُزءٍ كبيرٍ من المال على الفواتير الطِبّيَّة. وَبالإضافة إلى العِبْئِ المالي، هَلْ يُمْكِنُكَ أن تَتَخَيَّلَ/تَتَخَيَّلِي ما سَيُسَبّبه لكَ ألم وَمُعاناة زوجتكَ/ زوجكِ، وذلك بِرَغم عدم بَراءَتِكَ من أفْعالها أو مِن أَفْعالهِ السَّابِقة؟ بطَبيعَةِ الحال يمكنك أن تُؤَدّي الدَّور بِشَكلٍ آمِنٍ فلا تتزَّوَّج البَتَّة، لكن هذا الأمرلا يكون خياراً شَخْصِيَّاً.

“و أمّا من جهة الأُمور التي كتبتم لي عنها فحسن للرجل ان لا يمس امراة” (1كورنثوس 1:7)

 

ثَمَّة جانِب سَلْبِيّ آخَر للزَّواج هو وجود أطْفال. عندما يكون لَديك اَطْفال، فأنت تأخُذ على عاتِقك مَسْؤولِيَّة إحْضارهم إلى هذا الأمر ؛ لِتَلْبِيَة رغبتك في أن تكون أَباً أو اُمَّا، سَواء أَحْبَبْتَ/أَحْبَبْتِ ذلك أم لا. سَيَرِث أطفالكَ بِطَبِيعة الحال العديد من الصّفات ( سَيَّالات رُوحِيَّة) منكَ ومن زوجَتِكَ، إلَّا أَنَّهُم سيَخوضون غمار حياتهِم في نهاية المَطاف. قد يُصْبِحون أناساً مُحْتَرَمين، أو قد يصيرون “حُثالةَ أرْض” . يُمكن لِإنجاب الأطفال أن يُشَكَّل مُشْكِلَة وذلك لِسَبَبَيْنِ: أوَّلاً، أنت مسؤول روحِيَّاً، إلى نُقطة مُعَيَّنة، عن تَصَرُّفاتِهِم، وقد يُعيقون، بِطَريقة غير مُباشِرة، تَقَدُمكَ الرُّوحِي وذلك لِكَوْنِهِم امْتداد لَك. ثانِيا، قَدْ يُسَبّب الأطفال لكَ وَلِزَوْجَتِكَ الألَم إذا ما ذَهَبوا في ضَلالٍ.

 

النَّاس غير المُدْرِكين يَقولون أنَّ الإنجاب هو واجِب أخْلاقِيّ، وأنَّهُ من الأهَمِيَّة بِمَكان أَن يَحْمِلَ شخص ما إسْمَ العائلة، ويَرْعاكَ في سِنِّ الشَّيخوخةِ. إنَّ جوابي على كلامهم هو أنَّهُ “هُراء”. حَدَثَ في وَقْتٍ ما من الزَّمان أنَّهُ كان من المُهِمّ أن تتناسَل النّاَس وتَمْلأ الأرْض؛ لكن، إذا نَظَرْتَ حولَكَ فَسَتُدْرِك بِأَنَّهُ قريباً سَيَبْلُغ مجموع سُكَّان الأرْض 10 بلايين نَسْمَة. إذا كُنْتَ تَعْتَقِد أَنَّ التَّلَوُّث والتَّخَلُّص من النّفايات والأمطار الحِمْضِيَّة، ونَفاذ طَبَقَة الأوزون هو أمْرٌ سَيّئٌ في هذا الوَقت، فَما عليك إلا أن تُفَكّر بِما سَيؤول إليه أمرها لاحِقاً. وإلى جانِب ذلك، أليس أكثر نُبْلاً أن تُصبِحَ أباً أو أُمَّاً، عندما، تتمَنّى/تتمَنّين أن تكون/يْن أباً/أُمَّاً بإيجاد وَتَبَنّي طِفْلاً بِلا مأوى أو مُشَرَّداً بِمَنْحِكَ إيَّاه حَياةً أفْضَل؟

في البرازيل مَثَلاً، هناك ثلاثة ملايين طِفْلاً مُشَرَّداً يتِمّ إكراههم على الممارَسة والخوض في أعمال مُشينَةٍ وغَيْرَ مَشْروعَةٍ وذلك من أجْلِ البَقاء.

 

النُّقْطَة التي أُريد أَن أُقَدّمها هي هذه: أَنَّنا كأفْرادٍ، يمكن أن تكون حياتنا قد بَدَأت في وقت ما “بِخَيارات” ، فَبَعْدَ تَقُمُّصٍ واحِدٍ أو اثْنين، يُصْبِح الخيار في حياة ما قَدَراً لِحياة أخْرى. بكلمات أُخْرى، إنَّ حياتنا مَحْكومَة أَحْياناً بِحوادِثَ مُقَدَّرة هي ليست سِوى نتائج لأعمال سابِقَةٍ؛ بحيث لا يمكننا فِعْل أي شيء حِيالها، وذلك لأن العدالة الشَّامِلة يجب أن تأْخُذ مَجْراها. من ناحِية أُخْرى، إنَّ جُزءاً من حياتنا مَحْكوم ٌ مِنْ خياراتِ آخرين. يَتَضّح هذا الأمر عندما يُلحق بنا آخرون الضَّرر من دون سَبب.

أخيراً، إنَّ العديد من أفعالنا في الحياة ليست سوى خيارات اتّخَذناها بِمِلْئِ إرادتنا. تَكْمُن الفقرة الأصعَب في تحديد ما إذا كان الأذى الذي يُلْحقهُ شَّخص ما بِنا قد حَدث نتيجة قراره الخالِص أو أنَّهُ كان رَدَّةً فِعْلٍ (تِلْقائيَّة)  لِقرارات ما (طَبَّقْناها) في حياةٍ سابِقةٍ. وبِما أَننا لا نَعْلَم من هو المُسَبّب، فَعَلَيْنا ألّا نَتَسَرَّع في إلْقاء اللوم.

 

ثَمَّة تَرْجَمة غير حَرْفِيَّة لِمَثل شَرْق أوسَطِيّ يُفَسّر هذا بِوضوح: “لا تَنْزَعِج  بسبب حادِثٍ مُؤسِفٍ لأنهُ قد يكون قد حَدَث لِمَصْلَحَتِكَ” على سَبيل المِثال قد تَفْقِد مَفاتيح سَيَّارتِكَ، وتُمْضي عشر دقائق في البَحْثِ عنها في كل مكان مُمْكِنٍ، وفي النّهاية تجدها، وتتساءل أنْ كيف وَصَلَت إلى هُناك؟ قد تُصْبِح غاضِباً بِسَبب تأخيركَ الحاصِل، لكن ماذا لو كانت هذه الحادِثة مُدَبَّرة لِسَببٍ ما؟ لِنَفْتَرِضَ أنَّك لم تُحْتَجَز لِلعَشْرِ دقائق هذه، يمكن القول إذ ذاك أن أحد ما كان يريد إيذائك بإرادتهِ الحُرَّة، لكن لأنَّك “اسْتحَقَّيْتَ” أنْ تُنْقَذ، كان لا بُد مِن تَدَخُّل إلهِيّ هناك، فما هو شعورك الآن حِيال مفاتيحك الضَّائِعَةِ؟

 

في بَعْض الأحْيان قد تَجِد نَفْسَكَ في وَضْعٍ صَعْبٍ، مع احْتمال أن لا يُساعِدَك أَحَد، لكن بِطَريقة ما، يظهر شَخص ما غريب  في اللحظة المُناسِبة مُخْرِجاً إيَّاكَ من المأزِق. بالتَّأكيد هناك العَديد من “السَّامِريّين الصَّالِحين” على الأرْض، ولكن كيف يُمكن أن يحَدُث أن يكون ذلك الشَّخص حاضِراً في الزَّمان والمكان المُناسِبَيْن؟ هل يُمكن لِذلك الشَّخْص أن يكون قَد “أُلْهِم” أن يكون حاضِراً هُناك لكي تتلَقَّى المُساعَدَة؟ هل يمكن أن يكون ذلك الشَّخص قَدْ دَفَعَ لَكَ دَيْناً (الآن) وِفْقاً لِحياة أُخْرى ؟ ما الذي يُؤكّد لنا أن هذا الإنسان هو بَشَرِيّ آخر مِثلي ومِثْلك؟ ماذا لو لم يَكُن هذا الفَرْد موجوداً (على الأرْض)، بل كان في الواقِع تَجَلٍّ لِكيانٍ خارِق؟ٍ

 

النَّاس يَميلون إلى الهَيْمَنة على كل ما يُدعى تَدَخُّلاً من عالَمٍ رُوحِيّ لأنهُّ مُسْتَحيل وبعيد الإحْتِمال بالنّسْبَة لَهُم. عندما يُفَكّر النَّاس في العالَم الرُّوحِيّ، غالِباً ما يَطْرَأ في أذْهانِهِم الجَحيم الصَّاخِب، والمَلائكة التي يَنْبَعِث منها الضَّوء الأبيض المُعْمِي، وأصواتٍ مُهيبَةٍ ورَهيبةٍ. لكن ليس بالضَّرورة أن يكون العالَم الرُّوحِيّ كذلك. إنَّ الملائكة التي ظَهَرت بِهَيْئة بَشَرِيَّةٍ لِمُساعَدَةِ لوط وعائلَتهِ للهروب من سَدوم وعامورة، لم تكن مُخْتَلِفة عن أيّ كائن بَشَرِيّ. في الحقيقة، بدَت بشريَّة حَقَّاً بِحيث تَسَنَّى للشَّعْب في ذلك الوَقت أن يَشتَهيها. ماذا عن الرَّجُل الذي تَصارَع مع يَعْقوب كُلَّ الليلة، ليَكْتَشِفَ أنَّه كان ملاكاً من قِبَلِ الله تعالى؟

 

قِصَّة شَعْبِيَّة من أوائل العَصْر المَسيحِيّ تتحَدَّث عن مجموعة من المَسيحيين اخْتَبَأت في كَهْفٍ هرباً من الموت الذي على أيدي الرُّومان. صَلُّوا بِحرارة من أجل النَّجاة بِحياتِهِم، فاسْتجاب الله تعالى لِصلاتهم بِأَنْ ألقاهُم في سُبات مُدَّة 309 سنوات. عند اسْتيقاظهِم، لم يلاحظوا أمراً غير عادِيَّاً، لكن عندما أُجْبِروا على مغادرة الكَهف لِطَلَبِ الطَّعام، صُدموا لإكتشافهم أن المسيحيَّة قد انْتَشَرَت على نِطاقٍ واسِعٍ، وأنّ من كانوا يَعْرِفوهم لم يكونوا على قَيْد الحياة. وبعد التَّحَدُّث إلى مَن واجهوا من ناس، عَلِموا أنَّهُ قد مضى 309 سنوات على اخْتِفائِهِم. القُرآن الكريم يُؤَكّد صِحَّة هذه القِصَّة التي يمكن قِراءَتها في سورة الكهْف. هل يُمكن أن يكون هُناك تَفْسير عِلمِي لِهذا الحَدَث؟ ما لم يَكُن هناك تَدَخُّل لِقوى خارِقة كيف يُمكن لِمثل هكذا حادِثة أن تَقَعَ منذ  1600 سَنة، لا سيما أنه من المستحيل إطالة أَمَد الحياة بهذه الطَّريقة مع أَفضل ما توصَّلنا إليه من تكنولوجيا في القَرْنِ العِشرين؟ كيف تمكَّن دانيال من النَّجاة في جُبِّ الأُسود؟

 

كثير من حوادث أُخْرى كهذهِ في الكتب المُقَدّسَة بِأكملها تَمِيلُ إلى تَعْزيز فِكْرَة تَدَخُّل قُوَّات خارِقة. لكن، وبعد كُل شيء، بعض الحوادِث قد لا تكون خارِقة للغاية. وعلى سَبيل المِثال، لنَنْظُر إلى رؤيا حزقيال عن الكاروبيم. هل أَّنُهُ في الواقِع وَصَف وَحْشاً؟ إذا كان حزقيال قد رأى وَحْشاً في ذلك الوَقْت، فهَل تَظُن بأنَّهُ سيصِفهُ على أَنَّهُ من  الآلة؟ أم أَنَّهُ سيَصِفه كَوَحشٍ شبيه بِطائر؟ ماذا إذا كانت رؤياه وَصفاً لِمركَبة فَضائِيَّة؟

 

كيف تَمَكَّن يونان من البقاء على قيد الحياة في بَطن الحوت ثلاثة أيَّام؟ هل يُمكِن لأيّ عالِم أن يُظهِر أن للإنسان فُرصة في البقاء داخِل الجهاز الهَضمِي لأيام ثلاثةٍ كامِلةٍ وأن يَخْرج من جوفه سَليماً؟ كيف يُمكن لشَخص ما من ذلْك العَهْد أن يَصِفَ غواصَةً رآها؟ هل كان لِيَصِفها على أَنَّها آلة أم سمكة عَظيمة؟

 

إنَّ النُّقطة التي أُحاوِل وضعها هي التَّالية: بعض الحوادِث في الكُتُب المُقَدّسة هي خارِقة دون رَيْبٍ، لكن بعض الخوارِق لا تبدو شَيْئاً إذا ما مُحِّصَت وَفُسِّرَت حَرْفِيَّاً من قِبَلِ شخص عقْلاني في القَرْن العِشرين. لكن، إذا تَمَّ تحليل هذه الأحْداث في سِياق أوسَع، فإنَّها تُصْبِح مَنْطِقِيَّة.

 

 

الفصل الثَّاني، العقائد الفَلْسَفِيَّة الدَّاهِشِيَّة

 

الفصل 2

العَقائد الفَلْسَفيَّة الدَّاهِشيَّة

 

هل يمكن للعِلم أن يأتي بِأجوبة عَلى الأسْئلَة الآتية: هل هُناك خالِق؟ ما هو الغَرَض من خَلْقِنا؟ هل هُناكَ حَقيقة مُطْلَقَة؟ هل كُنَّا مَوجودين قبل أن نولَد؟ هل سَنُوجَد بعد مَوتِنا؟ هل تَصَرُّفاتنا مُحَدَّدة سَلَفاً، أم هي خاضِعة لِإرادَة حُرَّة؟ من نحن؟ إذا كان بالإمكان اسْتِعْمال الحقائق العِلْمِيَّة للإجابَة، فلا يُمْكِن أن يكون هناكَ أمْراً اسمُهُ فَلْسَفة. ولأن العِلم غير قادرٍ على معالَجة هكذا قَضايا فَقَد ظَهَرَت الفلسفة كتَخَصُّص. ما إن يتِمّ حَل قَضِيَّة ما عِلْميَّاً، تتوَقَّف إذ ذاك عن أن تكون قَضِيَّة فَلْسَفيَّة.

تقومُ الفلاسِفة بِدراسَةِ ما لا يَتَمَكَّن العِلْم من مُعالَجَتِهِ من قَضايا، ثُمَّ يقومون بِصِياغَةِ نَظَريَّاتٍ تَعْمَدُ إلى حَلّ كُلّ قَضِيَّة.

هذه الآراءُ الفَلْسَفِيَّة مُتَنَوّعة جِدَّاً. إنَّ كُلَّ فيلَسوفٌ يرى الأمور على وجْهٍ مُعَيَّن، وغالِباً ما تكون مَحْكومة بعقيدته في الحياة.

 

خُذ على سبيل المِثال مَسْألة الإجهاض. يُمْكِن للعِلْم تماماً شَرْحَ عَمَلِيَّة “الحَمْل بِطِفْل” وذلك من لَحْظة إخْصابِ البُويضة وصولاً إلى وَقْتِ الوِلادة. فإذا ما قَرَّرَت امرأة إجراء الإجْهاض أثناء الحَمْل في أيّ وَقْت، فيسْتَطيع العِلم أن يُقَدّم الجواب عن أَفْضَل السُّبُلِ لِإجْرائه، أكان مِن خلال اسْتِخدام الأدْوِيَّة أم من خِلال إجْراء عَمَلِيَّة جِراحيَّة. تبْدأ المُشْكِلة عِنْدَما يتِم السُّؤال عن الأمْر الأخْلاقِي للإجهاض. هل الإجهاض كَقَتْلِ إنسان؟ إنَّ دُعاةَ حُقوق المَرْأة في الإجْهاض لا يَعْتَقِدون ذلك. يُؤمن أكْثَرَهُم أنَّ الجَنِين ليس إنْساناً، وبأن حياة الإنْسان تبدأ عند الوِلادة. وقالوا أنَّهُ كُلَّ ما قرَّرَت امرأة إجهاض حَمْلها يجب أن تقوم بِذلك لأن جسدها وحده هو المُتأثّر. إلَّا أن مُعارِضُو الإجهاض يقولون عكْسَ ذلك، بقَولِهِم أَنّ حياة الإنسان تَبْدأ في لَحْظَة الحَمْل (وهذا عِنْدما يَتِمّ تخصيب البويضة). إنَّ إجهاض طِفْل أثناء الحَمْل هو كَقتلِ إنسان. لا يُمْكِن للعِلْم أبَداً تحديد ما إذا كانت الحياة تبْدأ عند الحَمْل أو عند الوِلادة وذلك لِأنَّها (الحياة) مَعْنَوِيَّة. فَما هي الحياة؟ إذَنْ صارَتِ القَضيَّة أخلاقِيَّة، ومَيْداناً للفَلْسَفة. إذا ما كان العِلم قادِراً على الإتيان بِجوابٍ قاطِع، إذن لَتَمَّ حَلّ مسألَة الإجْهاض بِرُمَّتِها بِطريقةٍ أو بِأُخْرى.

 

إنَّ مسألة الإجهاض لَهِي مِثال بَسيط مُقارَنة بِقَضايا الوجود والخَلْق. منذ فجر التَّاريخ، تناوَلت الفلاسِفة هذه القِضايا، كما انَّه تمَّ إيجاد فلسفات اُخْرى كثيرة. يَجِب أن نَسْأل سُؤالين مُتَرابِطَيْنِ: بِما أنَّ جميع هذه الآراءِ الفَلْسَفيَّة ليسَت في اتّفاقٍ مع بَعْضِها البَعْض، هل يعني هذا أنَّهُ يُمْكِن لِواِحدٍ منها أن يكون صَحيحاً؟ إذا كان الأمر صَحيحاً، فكيف يمكِنُنا أن نُحَدّد أيُّهما الصَّحيح؟ إنَّ إجابَةً شافِيةً لِهذه الأسْئلة تَعْني ضِمْناً أن الفلسفة التي وقَع الإختيار عليها تَمَكَّنت من كَشْف وشَرْح كُل ما ينبغي شَرْحهُ في الحياة. و في رأيي، إن فَلسَفة كهذه لا يُمْكِن أن توجَد في إطار الوجود الإنْسانِي. وأسباب ذلك سَتُصْبِح واضِحة في الفُصول التَّالية. تحتوي كُلّ الفلسَفات تقريباً على بَعْضٍ من عَناصِرِ الحقيقة، لكن لا شيء منها يَحْتَوي على الحقيقة الكامِلة. إن محاولة وضع نَظَريَّة دقيقة عن الحقيقة هي كمحاولة تجميع”     قِطَع لُغْز لُعبة الصُّوَر المُقَطَّعة” Jigsaw ، من دون معْرِفة ما يُشْبِه الصُّورة، مع فقدان ثُلْثَيّ القِطَع. إنَّهُ مع وجودِ ثُلْث القِطَعِ بالإستطاعة توقُّع شكل الصَّورة كامِلة. إذا كُنَّا مَحْظوظين، فبإمكاننا تَجْميعَها لِتَشكيل جزء صغير من الصُّورة، لكن لا يُمكن تَوَقُّع الصُّورة كامِلة بأيّ حالٍ من الأحوال. وهكذا هي الحال مع أفْضل الفلْسفات المُتاحَة. مَتى تَمَّ تجميعها، يُمْكِنْ أن تَصْلُحَ في المَكانِ على سَطح “لُعْبَة الصُّوَر المُقَطَّعة”

 

إن المَبَادِئ الإيمانيَّة الدَّاهِشيَّة الفَلْسَفيَّة، ليست بأيَّة حال من الأحوال تَفْسيراً للصُّورة الكامِلة. إنَّها لا تَدَّعي تقديم الإجابة عن سؤالٍ مِثْلَ من هو الله تعالى؟ ما هو الغَرَض من خَلْقِنا؟ لِماذا يُوجَد الشَّر؟ هذه الأسْئلة والعديد منها هي خارِج نِطاق الدَّاهِشيَّة. إلا أنَّ المبادِئ الإيمانيَّة الدَّاهِشيَّة الفَلْسَفيَّة تُقَدّم الإجابة عن أسئلة عديدة لا يُمكن شَرحها بالنَّمَطِ التَّقليديّ. إنها تُوَفّر قِطَعاً إضافيَّة لِإضافَتِها إلى “لُعْبَة الصُّوَرِ المُقَطَّعة” لِنتمكَّن من أن نُصْبِح على مقربة أكثر من الصُّورة الكامِلة. كما تُوَفّر الدَّاهِشيَّة أيضاً معرِفة المكان المُناسِب لِبِضْعَة أجزاء الصُّوَر على سَطح “لُعْبة الأحْجِية” لِكَي لا نَحْتاج إلى تَخْمين مَكانِها.

 

الصُّورة الجُزْئيَّة 1:

الله

 

دعونا نأخُذ كل خُطوَةٍ بِخطوَتِها، وأن نَعْتَبِرَ لِفَترة من الوقت أنَّ وجودنا، كما نفهَمهُ، هو الوجود الحقيقي. السُّؤال الأوَّل الذي يتبادَر إلى الذّهْن هو، كيف جِئنا إلى الوجود؟ هناك وِجهَتا نَظَر معْقودتان حول هذا الموضوع على نِطاقٍ واسِع. الأولى والأكثر شيوعاً هي وجهة نَظَرِ المُؤمِن، والتي تَنُصّ على أنّنَا خُلقْنا من قِبَل قُوَّة خارِقة للطَّبيعة (الله). الثانية هي وجهة نَظَر المُلْحِد التي تتصَدَّى لِفكرة الله، وتَعْزو وجودنا إلى (الحادِث) أوَّلاً، ثُمَّ إلى عَمَلِيَّة تَطَوّرِيَّة.

 

من النَّاحية العِلميَّة، يُمْكننا تَتَبُّع وجود الحياة في مُسْتواها الأكثر بِدائيَّة (أشكال حياة وحيدة الخَليَّة)  أيّ منذ 3.5 بليون سَنَة. وقبل حوالي بليون سَنَة من ذلك، يُعْتَقِد أن الأوضاع على الأرض لم تَكُن مؤاتية للحياة. ووفقاً لِوجْهَةِ نَظِر المُلْحِد، إنَّ تَطَوُّر أشكال الحياة قد جاء تحْديداً على نَحْوِ تفاعُلٍ كيميائِيّ حيث انْضَمَّتِ الجُزَيئات العُضوِيَّة بعضها بِبَعْضٍ فَشَكَّلَتْ أحْماضاً أمينيَّة التي انضَمَّت بِدورها في سَلاسِل طويلة لِتُشَكّل ال “ببتيدات” Peptides. يُمكن للببتيدات تشكيل سلالسِل لِتَأليف بروتينات، والتي بِدورها تتفاعل مع موادٍ أُخْرى لِتشكيل ال “بوروتوبلازم” وهو السَّائل المُرَكَّب الموجود في الخلايا. لكن هذه ليست القِصَّة كُلّها، لِأنَّهُ بِداخِل نواة الخلايا يوجد نوعان مُرَكَّبان من الجزيئات، RNA) ribonucleic acid وdeoxyribonucleic acid (DNA

اللتان تحتويان على كُلّ المعْلومات المُتَعَلّقة بتكاثُر الخلايا. وبكلمات أُخْرى، تحتوي الخَلِيَّة على المُخَطَّطات الهَنْدَسيَّة. إنَّ كُل الأنواع الحَيَّة سواء بَشَريَّة أو حيوانيَّة أو نباتيَّة هي عِبارة عن مجموعةِ لِتِلْكَ الخَلايا.

الأبحاث العِلميَّة، إلى حَدِّ الآن، قد فَشِلَت في إنتاج خَليَّة واحِدة. ويبقى السُّؤال، هل حَدَثَ وجودنا مُصادَفَةً أم بِحُكْمٍ مُسْبَقٍ؟

 

إذا افترضنا أن تكوين الحياة على الأرض كان لا شيء أكثر من تُفاعُلٍ كيميائيّ، إذَن من هو الذي خَلَق العناصِر الأساسيَّة المُسْتَخْدَمة في هذه العَمَليَّة؟ بِحَسَبِ اَحْدَثِ النَّظَريَّات، تكوَّنت الأرض في نفسِ وقت تكوُّن الشَّمس، أي منذ 4.5 بليون سَنة، وذلك عن طريق اصطِدام كُويكِبات من سُحُبِ غُبار من السَّديم الشَّمسيّ. إن نظامنا هو جُزْءٌ من مجَرَّة دَرْبِ التَّبَّانة، حيث أنَّ شمسنا هي نجمة واحِدة من 100 بليون نجمة. (أُنظر الشَّكل 1) وهناك آلاف بل مَلايين المجَرَّات الشبيهة بِمجَرَّتنا التي تُؤَلّف الكون. من أين جاء كُل هذا الكون الواسِع؟ لقد اكتَشَفَ العُلَماء ان المَجَرَّات تَتَحَرَّك بعيداً وخارِجاً عن بعضِها البعض على نَفْسِ النَّسَق. ومن خلال اسْتِقراء حركتها إلى الوَراء، خَلُصَ العُلماء إلى أنَّ كُل المجرَّات نشأت من نَفْسِ النُّقْطَة، منذ 10-20 بليون سنة. تَشَكَّلَت المجرَّات وأصْبَحَت مُنفَصِلَة نتيجة انفِجار من نوعٍ ما. ومن هُنا جاءَت نَظَريَّة الإنْفِجار الكبير. وبعدما هَدَأت الجسيمات الكونيَّة الآتية من جَرَّاء الإنفِجار، تكَثَّفَت لِتُشَكّلَ مُخْتَلَفِ النُّجوم والكواكِب التي تُؤَلّف المَجَرَّات.

milkyway

الرَّسْم التَّوضيحِيّ 1

إنَّ شَمْسنا هي نَجْمٌ في مَجَرَّةِ دَرْبِ التَّبَّانة، التي تحْتَوِي على 100 بليون نجمة. إنَّ مَجَرَّتنا هي واحِدة مِن آلاف المَجَرَّات بَلْ مَلايين المَجَرَّات التي تُشَكِّل الكون. (الصُّورة من وِكالة ناسا الفَضائيَّة)

 

ما الذي دَوَّى في الإنفِجار الكبير؟ لقد طَّوَّرت العُلماء نَموذَجاً لِمحاوَلة تفسير ما الذي انفَجَر وكيف جاءَ إلى حَيّزِ الوجود. يُسَمَّى نموذجهم، نموذَج الكون التَّضخيميّ. وِفْقاً لِهذا النَّموذَج، ودون المُرور في الكثير من الأمور التّقَنيَّة، وبِحسب توقيت “بلانك” أي عند (10-43 ثانية بُعَيْد الإنفِجار الكبير)، يُمْكِن أن تكون الجُسيمات والجسيمات المُضادَّة (الكُتلَة) قد ظَهَرَت من “لا شيء” نتيجة التَّقَلُّبات الكَموميَّة. ولكي يحْدُث هذا ينبغي إثارة حالَة من الفراغ. وفي ظِلّ ظُروفٍ مُعَيَّنة، تَخْضُع الكُتلة المكوَّنة حديثاً إلى “نمو هائل” شبيه بانْفِجار، وهو “الإنْفِجار الكبير”. من أين جاءت حالة الفراغ المُثارَة؟ هذا الفراغ المُثار يكاد يكون “لا شيء.” مهما ذهبت العُلماء بإثبات أن الكون خلَق نَفْسَه، فسيصلون إلى نقطة تقود إلى أنَّ هناك حالة موجودة مُسْبَقاً. حتَّى الملحدون، لا يمكنهم إثبات أن العالَم خَلق نَفْسهُ، ولا حتَّى المُوَحِّدون يستطيعون إثبات عكس ذلك. هذا يقود كثيرين إلى أنَّهُ لا يمكنهم إيجاد أو نَفْي إثبات لوجود الله. ويُشار إلى هذه الظاهِرة باسم  الأغنوستيَّة.

 

لكن انتَظِر ثانيّة. هل يُتَوَقَّع مِنَّا إثبات أو دَحْضَ وجود الله على أساس القوانين الطَّبيعيَّة للكون؟ ماذا لو كان هُناك قُوَّة ما وراء القوانين الطَّبيعة للكون؟ كيف يُمْكِنُنا حَتَّى البدْء في فهم هذه القُوَّة، ناهيكَ عن تَفسير ذلك عِلْميَّاً؟ يعْتَقِد المُلْحِدون عُموماً بأن الكون بِطَبيعَتِهِ مادِيّ بِشَكْلٍ صارِمٍ. وذلك من وجهة نظر  (الأحادِيّة-المادِيّة/ الطّبيعيَّة/ الآليَّة). يزعمون بأن عِبْءَ إثبات وجود الله هو مُلقى على عاتِق المُؤمِن، وبأن المؤمن لا يُمْكنه عَرْضَ دليل على ذلك. أنا أطلُب منهم مجَدَّداً أن يثبِتوا عِلميَّاً  أن الكون خَلَق نفسَهُ من “لا شيء” دون وجود ظُروف موجودة مُسْبَقاً، أيْ دون وجود علاقة الزَّمَكان أو حالة “الفراغ المُثار”. كما أَطْلُبُ منهم أيضاً أن يأخذوا كل مادَّة موجودة في العالَم على أن يخلقوا خليَّة حَيَّة واحِدة منها. في اعْتِقادي، كان غاليلو صائباً تماماً في قولِهِ أنَّ الدّين والعِلم هما حقيقتان يجب أن لا تتعارَضان أَبَداً. واحِدٌ يتناوَل طَبيعَة الله الخارِقة وآخَر يَتَعامَل مع قوانين الطَّبيعة الكونيَّة التي خَلَقَها الله تعالى.

 

إذاً، إذا كان هُناك قوّة خَلَقت الكون ومع ذلك هي أبعَد من القوانين الطَّبيعيَّة لِلكَون فَما الذي نَعْرِفهُ عنها؟ لا شيء في الكُتُب العِلْميَّة التي يمكن البحث فيها يُمكن ان يُعْطينا فِكرة واحِدة. إذا بَحَثْنا في الكُتُبِ الدّينيَّة، فسنجد قليلاً من المعْلومات. بعض الكُتُب المُقَدَّسة تدعو هذه القُوَّة المُوجِدة إله، الله، الرَّب ، يهوة. ما نَتَعَلَّمهُ عن هذه القُوَّة هو أنَّها طاهِرة، مُحِبَّة، راعية، قادِرة على كُل شيء، كُلِيَّة العِلْمِ، كُلَّيَّة الوجود، رحيمة، كريمة، صَبورة، صادِقة، وأشياء أُخرى كثيرة. كما نَتَعَلَم أيضاً أنَّهُ لِهذه القُوَّة المُوجِدة، تُقْتَضَى الطَّاعة والمهابَة المُطلَقَتين. إنَّ الكُتُب المُقَدَّسة مَلْأى  بِوصْف أحداث عِنْدَ انحرافَ الإنسان عن القوانين المنصوص عنها من قِبَلِ الله، فكانت النَّتيجة العِقاب (طوفان نوح  وسَدوم وعامورة) إن ما تُخْتَزَل الأُمور إليه هو الإيمان بِأبَديَّة الله عَزَّ وَجَلّ. إذا كُنَّا قد وُجِدْنا، إذاً الله هو خَلَقَنا. هذا عُنْصُرٌ أَساسيّ في الفَلْسَفَة الدَّاهِشيَّة.

 

إنَّه من السُّوء بِمكان أن نسأل السُّؤال التَّالي: هل أنت موجود؟ ناهيكَ عن طَرْحِ السُّؤال، لِماذا أنت موجود؟ يمكن أن يكون هناك إجابَة صحيحة واحِدة فَقط على السُّؤال الأخير. لكن إذا طُرِحَ هذا السُّؤال على أشخاص مُخْتَلِفين فَسَوفَ يُؤتي بكثير من الإجابات اعْتِماداً على المُعْتَقدات الفَلْسَفيَّة لِكُلّ فَرْدٍ. على الأرْجَح لن تكون هناك ايَّة إجابة صَحيحة. لَقَد ذهَبَت مجموعة من النَّاس تؤمن بالخالِق إلى مُحاوَلَةِ إيجاد جواب عن سُؤال لِماذا خُلِقنا وما ذلك إلَّا لابْتِداع هَرْطَقة. فلنأخُذ على سبيل المِثال إدجار كايسي وأتْباعِهِ. في منشور دُعِيَ “لا يَزال وأَعْلَم”، لِ ماري آن وودوِرد، فَسَوفَ تَجِدَ ما يَلي:

خَلَق الله الإنسان كي يُصْبِح رَفيقاً له. وبالتَّالي خُلِقْنا مُساوِين له، أو مُشارِكِين للمُبْدِع؛ هكذا نحن أيضاً جُزْءاً من هذه القُوَّة الواحِدة.

 

وفي سُؤالٍ طُرِحَ على إدْجار كايسي:

س: المشكِلَة الأولى تَتَعَلَّق بِسَبب الخَلْق. هل يَنْبَغي إيلاء هذا الأمر (الخَلْق) على أنَّهُ رَغْبَةِ الله في تَجْرِبَةِ نَفْسِهِ، رَغْبَةِ الله في رِفْقَةٍ، أو رَغْبَةِ الله في التَّعْبير عن نَفْسِهِ، أو في أيّ طَريقةٍ أُخْرى؟

ج: إنها رَغْبَة الله في رِفْقَةٍ وفي التَّعْبير.

 

كيف وَصَلَ إدجار كايسي وأتباعهُ إلى هذا الإسْتِنتاج؟ حَتَّى أنَّهُم كيف تَمَكَّنوا من أن يبدأوا بِفَهْمِ ما هو الله عليه، ناهيك عن ما هي احْتياجاتِهِ؟

في الحقيقة لا أحد في العالَم يعلم ما هو الهَدَف من خَلْقِ الكون وما هو فيه.  وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ  (سورة الدُّخان 38-39)

خُذ وجهة نَظَر أولئكَ الذين يعتنقون الدّين المَسيحيّ، الذين يؤمنون أن يسوع المسيح هو الله، وَبِأنَّهُ جاء إلينا في هيئة إنسان ليُنْقِذنا بإخْضاعِ نَفْسِهِ للسُّخْرية، الضَّرْب والشَّتائم والصَّلب من كائنات من المُفْتَرَضِ أنَّه قد خَلَقَها! في أيّ مكانٍ في الكتاب المُقَدَّس ادَّعى أنَّهُ هو الله تعالى؟ في الواقِع، ولأولئك الذين هُم على دِراية كبيرة في الكتاب المُقَدَّس، رفَضَ يسوع حَتَّى أن يُدْعى “السيّد الصَّالِح” لأنَّه لم يكن كامِلاً. “لماذا تدعوني صالِحاً؟ ليس أحد صالِحاً إلَّا واحِدٌ وهو الله” (مُرْقُس 18:10)

وإلى جانِب ذلك، إذا كان يسوع المسيح هو الله، فَإلى من كان يُصَلّي قبل وقت قليل من انتِقالِه؟ هل يُصَلّي الله إلى نَفْسِهِ؟ وأيضاً، عندما كان على الصَّليب لماذا قال ” إلهي إلهي لِماذا تَرَكتني” (مَتَّى 46:27) إذا كان يسوع المسيح هو الله فُسُؤالهُ غير منطِقِيّ وسَخيف.

عُنصُرٌ آخر في الرّسالة الدَّاهِشيَّة وهو رَفض أن يسوع المسيح هو الله عَزَّ وجَلّ. وَيُعْتَبَر يَسوع المسيح  كَنَبيٌّ عَظيمٌ. كان يسوع المسيح رسولاً لله لا أكثَر. وبِرغْمِ عَظَمَتِهِ نَزَلَ إلى الأرض لإيصال رِسالة لَنا. إنَّ رسالتهُ عن الحُب والرَّحمة والبِرّ لَمَقبولة دون شروط عند مَنْ يُؤْمِن بِالفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

الصُّورة الجُزْئيَّة 2: الأديان

 

ليس هناك ما هو اكثَر إيلاماً من رُؤيَةِ طَريقَةِ مُمارَسة الأديان اليوم. النَّاس من جميع مناحِي الحياة يتبعون الطّوائف الدّينيَّة معْصوبيّ الأعين. في حين أن غيرهم يتحوَّلون بعيداً عن دينهم إلى الإلحاديَّة وذلك بسبب ما سمعوه من أُمورٍ لا مَعْنى لَها. ولا يزال هناك آخرون يتَحوَّلون بعيداً إلى البِدَع لأنَّها تُوَفّر طريقة عَيْشٍ أُخرى أو تفسيراتٍ بديلة لِتِلْكً التي للدّيانات التَّقليديَّة. إنَّ تشكيل الطَّوائف قد أدَّى إلى حالاتٍ كارِثيَّة كمأساة جيم جونز في غيانا أو ماساة دايفد كورِش في واكو- تكساس. تنقَسِم المسيحيَّة اليوم إلى مِئاتِ الطَّوائف؛ الإسلام واليهوديَّة منقَسِمة أيضاً. كل طائفة منها تتدَّعي أنها على حَقٍّ. كيف يُمْكِنُنا تَحْديد من هو على حَقّ ومَن هو على خَطأ؟ للأَسَف، لقد نَسِيَت النَّاس مَعْنى جوهَر الأديان وهو: البحث عن الحقيقة حول وجودنا وعِلاقتنا مع الله تعالى.

 

ولكن كيف يُمكنكَ البحْث عن الحقيقة إذا كنت قد تَربَّيت على ألَّا تسْأل كاهنكَ أو زعيم دِيانتكَ عن ما يقوله لك؟ إذا كُنْتَ مسيحيَّاً فَاقرأ العهد الجديد وحاوِل أن تُحَلّل ما يقولهُ. إذا كُنْتَ مُسْلِماً فَيُرْجى قِراءة وتحليل القُرآن. إذا كُنت يهوديَّاً فاقرأ وحَلّل العَهْد القديم. إنَّ المُثَقَّف الحقيقيّ لا يأخذ الأشياء كأُمورٍ مَفْروغ منها بَلْ يأخُذ في البَحْث في الموضوع لأطوَل فَتْرة مُمْكِنَةٍ إنْ كان ذلك ضَروريَّاً. بِغَضّ النَّظَر عن أيّ دين تنتَمي إليه أو أي كتاب مُقَدَّس تؤمن فيه، “فإنَّ جوهَر كل الأديان هو واحِد”. إن هذا لَمُكَوِّنٌ آخَر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

  • الإيمان بِخالِقٍ واحِدٍ بِغَضّ النَّظَر عن دعوتكَ إيَّاها بالقوَّة الموجِدة، الرَّب، الله، أو أيّ اسْمٍ آخَر
  • السُّلوك البَشَرِيّ اللائق والصَّالِح
  • الإيمان في الحياة بعد الموت

 

بِما أنَّ جوهَر كُل الأديان مُمَاثِلٌ، هل هو حَقَّاً مُهم كيف تَعْبُد خالقكَ؟ هل هو حَقَّاً مُهِم أي كنيسة، مَسْجِد، أو مَعْبَد يهوديّ تَحْضُر؟ أي طَعام تأكُل، أو إذا كنت تُوَلّي نَفْسَك شِطر مَكَّة عندما تُصَلّي؟ في بَعْضِ النَّواحي يُهُمّ الأمْرُ وفي البَعْض الآخَر لا. إنَّهُ لَمِنَ المُهِمّ جِدَّاً أن نَفْصِل جوهَر الدّين عن التَّطبيق الإجْتماعيّ لهُ. يأتي الدّين إلى حَيّز الوجود في وقْتٍ مُعَيَّن وفي مكان مُعَيّن وإلى مجموعةٍ مُعَيَّنة من النَّاس. إنَّهُ يَأتي في الشَكل الذي هو بِحَسَبِ اسْتِعْدادِهم لِقُبول هذا الدّين، و مَدَى فَهْمِهِم لهُ. وعلى سبيل المِثال جاء الإسلام لأكثَر النَّاس وَثَنيَّة في شِبْهِ الجَزيرَة العَرَبيَّة في شَكْلٍ مُناسِبٍ لِنَمَطِ حياتِهِم ومدارِكهِم.

 

إنَّهُ مع تَطَوّر الدّين، لَيُرافِق جوهرهُ مجموعة من مُمَارَسات يَضَعُها مُؤَسّسها ومن ثُمَّ أتباعه في وقتٍ لاحِق. وهكذا فإنَّ الأعياد الدّينيَّة تأتي إلى حَيّز الوجود لإحْياءِ أحْداثٍ هامَّة، وتنشأ الصَّلاة في شَكْلٍ لا يُمْكِن بِسهولة نسيانهُ، ثُمَّ تَنشأ قواعِد مُحَدَّدَة لِتُنَظّمَ الزَّواج، الموت، الصّحَّة، وغيرها من جوانِبِ الحياة. لا يزال اليهود اليوم يتْبَعون الكثير من نَفْسِ العادات الإجْتماعِيَّة التي كانت تُمارَسُ في عهدِ موسى؛ كذلك المسيحيَّون منذ عهد يسوع المسيح؛ والإسلام في أيَّام محمَّد.

 

حَتَّى أنَّ أَحْدَث هذه الدّيانات الثَّلاثة هو مُنذُ حوالي 1400 سَنة. ألَم يَحِنِ الوقت لِتَطَلُّعِ النَّاس إلى العادات التَّقليديَّة وسُؤال ما إذا كان يمكن تطبيقها في الحياة في القَرْن العِشرين؟ هل يُعْقَل التَّحْريض على ثَوْرَةٍ دينيَّة لإجْبار أُناس القَرْنِ العِشرين على الإلتِزام الصَّارِم بِقَواعِد وضِعَت لأوَّلِ مَرَّة على شَعْبِ القَرْنِ السَّادِس؟ هل ظُهور الأُصولِيَّة الإسْلاميَّة، وسيادة الأبيض المسيحيّ، والأُصوليَّة اليهوديَّة، هي اتّجاه إيجابيّ في هذا العَصْر؟

 

تنشأ بعض الأديان لِاسْتِكمال أديان قَديمة. المسيحيَّة هي واحِدة مِنها. إن قول: “العين بالعَين والسّن بالسّن.” (لاويين20:24) يُسْتَبْدَل في المسيحيَّة من اليهوديَّة بِ “من ضَرَبَكَ على خَدّكَ الأيمَن فَحَوّل لهُ الآخَر أيضاً” (متَّى 39:5) . في القَرن الأوَّل، كان اليهود على اسْتِعْداد لِلتَّخَلُّص من القواعِد والأنظِمة الإجْتِماعيَّة لَديهِم التي ورثوها منذ بِضعَة آلاف من السّنين والإنْتِقال إلى ما هو أكثر نُضْجاً. تَحَدَّى يَسوع المسيح هذه القَواعِد الإجْتِماعِيَّة دون مناقَضة الوصايا العَشْر.

 

إنَّ مُخالَفة يسوع المسيح لِتَقاليد يوم السَّبت يَتَضّح في عِدَّة مَقاطِع من الكِتاب المُقَدَّس. ” السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ ” (مُرْقُسْ 27:2)

 

فأجاب وقال لهم حَسَناً تنبَّأَ أشعياء عنكم أنتُم المُرائين كما هو مكتوب. هذا الشَّعْب يُكْرمني بِشَفَتَيْه وأمَّا قَلْبهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنّي بعيداً. وباطِلاً يَعْبُدونني وهُم يُعَلّمون تَعاليمَ هي وصايا النَّاس. لِأنَّكُم تَرَكْتُم وصِيَّة الله وتتمَسَّكون بِتَقليد النَّاس. غَسْل الأباريق والكٌؤوس وأُموراً كثيرة مِثل هذه تَفْعَلون.” (مُرْقُس 7: 6-8)

 

” لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (مَتَّى 5: 17)

 

ومن ناحِية أُخْرى جاءَ الإسلام إلى الأُمَم الوَثَنيَّة، ولم يَرْفُض اليهوديَّة أو المسيحيَّة في أيّ حالٍ من الأحْوال . وفي الحقيقة لم يَتِم إكراه اليهود والمَسيحيين على أن يَتَحَوَّلوا عن دينِهم إبَّان المَدّ الإسلاميّ.

 

“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا  وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” (سورة البَقَرة 62)

الإسلام يُفَسِّر كذلك بَعْض الحوادِث المَذكورة في الكِتاب المُقَدَّس مِثل صَلْبِ يسوع المسيح.

 

ويَرى بَعض المُسْلِمين أنَّه بِما أن الإسلام قد جاء آخِراً، وبِما انَّه رسالة من قُوَّة إلهيَّة إذن فشرائع الإسلام تُبْطِل شرائع جميع الأديان الأُخْرى، وأن القُرآن الكريم هو  الكِتاب السَّماويّ الوَحيد الذي يجب أن يُقْرَأ ويُقْبَل، وبأن كل شيء آخر هو لاغٍ وباطِل. قد يُقَدّم البَعْض مِثالاً على ذلك قانوناً مَرَّرتهُ حكومة ما فَألْغَى ما سَبَقَهُ. إنَّهُ لَغير عادلٍ حَقَّاً مُقارنة شرائع كتاب سماوِيّ بِقوانين وضَعها بَشَر. يَسُنُّ الإنسان قوانيناً تَعْكِسُ ما يُنْظَرُ إليهِ أنَّه لِصالِح المُجْتَمَع؛ كما أنَّهُ لا تَقْتَضي هذه القوانين بأن تكون أخْلاقيَّة أو مقبولة من الله تعالى. وعلى سبيل المِثال، إذا سَنَّت الولايات المُتَّحِدة قانوناً يجعَل زواج المُثْليين قانونيَّاً، فهذا لا يَعْني أن قانوناً كهذا يرمي نحْوَ ما هو أفْضَل. إذا ألغى الإنسان قانوناً وَشَرَّع آخر، إنَّهُ لأنَّ مَنطِقَ الإنسان يَطْلُب ذلك، وذلك شيء غير مُهِمٍّ. ولَكنَّ الأمر ليس كذلك عنْدَ مَجيء الكتُب المُقَدَّسة. تأتي الأنبياء لِتُكمّل عَمل من سَبقها من أنبياء، وليقوموا بتوضيح أكثر لِما كان قد تَمَّ توضيحهُ سابِقاً، لكن لا لِنَقْضِ من سَبَقَهُم. لا أرى في الكتُبِ المُقَدَّسة سِوى أنَّها الأَساسات التي يَجِب أن تكون فينا لِلحصول على بِناء مُتَماسِك.

 

بِما أَنَّ جوهَر الأديان هو واحِد، فإنَّه على كل مَن يَرْغَب في توسيع مدارِكهِ حول الأديان أن لا يَتَرَدَّدَ في دِرَاسةِ الكُتُبِ السَّماويَّة، على أن يُجَرّدها (في قِراءَتِهِ) من الجوانِب الإجْتِماعيَّة ثُمَّ مقارَنتها دون تَحَيُّزٍ.

إن قُبول كافَّة أنبياء الله (يسوع المسيح، موسى، محَمَّد، بوذا، داهش، وغيرهِم) و دعاة السَّلام والإصْلاح الإجْتماعِيّ (غاندي، مارْتِن لوثَر، وغيرهِم) لَهِيَ مُكَوّن آخر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة. عندما أُسْأل عن دِيانَتي، أُجيب أنا يهودِيّ، مسيحيّ، مُسْلِم، وأتْبَعُ عقائد إيمانيَّة أُخرى، كُلّها في واحِدة، لأنني داهِشيّ. إنّهُ بِمُجَرّدِ فَهْم اَنّ جوهر الدّين هو وَحْده الذي يَهُمّ، فإن مَوقِفكَ اتّجاه الأديان الأُخْرى سَيَتَغيَّر. عندما يستوعِب الفَرْد ذلك فَسَيَكون بإمكانه العَمَل على تحطيم الحواجِز الدّينيَّة التي تَقود الأُمم إلى الحُروب، أو لِتَضميد جُروحٍ حَرْبٍ أهْلِيَّة كانت قد غَذَتها الكَراهية الدّينيَّة. ” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” (سورة الشُّورة 13)

 

يَرى البَعض أنَّهُ من المُسْتَحيل أن تَكون مسيحيَّاً، يهوديَّاً، مسلِماً، وتابِعاً لِمَذاهِب أُخْرى في وقتٍ واحِدٍ. كيف يمكن لأحدهم أن يكون ثلاثة في آن؛ جمهوريّ، ديمقراطِي ومُسْتَقِل؟ إنَّ جوابي على هذه الحُجَّة هو أنَّهُ لا ينبغي تمرير التَّحليل السّياسيّ، كَجُمهورِيّ يقابلُهُ ديمقراطِيّ يُقابِلُهُ مُسْتَقِلّ، على أنَّها حُجَّة مَنْطِقيَّة. إن هذا الأمر مقبول في السياسَة والحياة البَشَريَّة. أمَّا كَحقيقة روحيَّة فالأمر ليس ذلك. هناك حقيقة واحِدة فقط. قد تَتَّخِذ أشكالاً مُخْتَلِفة، لكنَّها واحِدة. طالما تعْتَقِد أن كتابك المُقَدّس ودينك هو الحقيقة الوحيدة، فَسَيَبْقى مِنَ الصَّعْب أَن تفهم كيف أن تؤمن بِجَميع الأَديان. ليس حَتَّى تَفْتَح عَقْلَك وتُفَكّر بِعَقلانيَّة ودون تَحَيُّزٍ لِكَي تُدْرِك هذه الحالة الذّهْنيَّة. ولكن كيف يُمْكِنكَ ان تُؤمِن بِكُل الدّيانات مع العِلم أَن هُناكَ اخْتِلافات كبيرة بينَها. يوجد اخْتلافات كُبرى بين ما يدعو إليْهِ كُل دين و بَين ما يُمارَس. على سبيل المِثال، في الكِتاب المُقَدَّس، لا يَدّعي يسوع المسيح الأُلوهِيَّة، لكن، المسيحيين في جميع أنحاء العالَم يؤمنون أنَّهُ كذلك. يرْفُض القُرآن أُلوهيَّة يسوع المسيح وينظُر إليه باعْتِبارِهِ نَبيَّاً عَظيماً. وبالمِثْل يَعْتَقِد المَسيحيُّون أنَّ يسوع المسيح قَد صُلِب، لكن القُرآن يقول أنَّه لم يُصْلَبْ. كيف يُمْكِن التَّوفيق في هذه المُشْكِلَة؟ فيما يَتَعَلَّق بالصَّلْب، كُلّ من الكِتاب المُقَدّس والقرآن صَحيحان. النَّاس في ذلك الوقت رأوا يسوع المسيح على الصَّليب، وَشاهدوه يَموت، لكن الأمر الذي لم يَعْرِفُوه هو أنه،  بِبَساطَة، كان تَجَلّياً مِن قِبَل كيان روحِيّ. كان شَبيهاً روحيَّاً لا يسوع المسيح النَّبِيّ البَشَرِيّ الذي كان عَلَى الصَّليب. يسوع الإنسان لَم يُصْلَب لأنه أَعادَ طَلَبَ ذلك. ”  ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ” (مَتَّى 39:26) والقُرْآن على صَواب في قَولِهِ، ”  وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ” (سورَة النّساء 157)

 

هكذا كما تَرون، المسيحيُّون والمُسْلِمون يُنادون بِنَفْسِ الشَّيء؛ لكن ما يُمارَس اليوم  يَضَعهُم على خِلاف. إنَّ مُجَرَّد رِفْض اليهود الإقْرار بِيسوع المسيح لا يجعَل ديانتهم باطِلَة. كُل مسيحيّ ومُسْلم يؤمِن بِكتاب العَهْد القَديم، لكنَّهُم لا يَقْبَلون إلا بما يحتويه كتابهم “كالحقيقة دون سواها.” ليس لَدَيّ أية مُشكِلة في قُبول اليهوديَّة، وذلك بالرَّغم من عدم إيمان اليهود بأنَّ المسيح قد جاء. وبالمِثْل، أعْتَقِدُ أن مُحَمَّد هو نَبِيّ، خِلافاً لِمُعْظَمِ المَسيحيين الذين يَرْفُضون هذه الفِكْرة، وهذا لا يجعَل المسيحيَّة على خَطأ. وبالمِثْل، أعْتَقِد أَن داهِش هو نَبِيّ وذلك يُخالِف قَولَ بَعْض اليهود، والمسيحيين، والمُسْلِمين، ولكن، أيْ (ما يقولونَهُ) لا يَجْعَل اليهوديَّة، المسيحيَّة، والإسلام على خطأ.

 

يَجِبُ الأخذ بِعَيْنِ الإعْتِبار أَنَّ دِقَّة ما وَرَد في العهد القديم والجديد يَسْتَلْزِمُ السُّؤال. ليس من يُنْكِر أنَّ عديداً من الأحْداث لم تَتِمّ، لكن أُجْرِيَت إضافات على بَعض تفاصيلِها، وتَمَّ حَذْف أُخْرى. إنّ الأجْزاء المختَلِفة للعَهْدِ الجديد لم يتم جَمْعها في مُجَلّدٍ واحِدٍ إلَّا بَعْدَ مَجيء يسوع المسيح بِمِئَات  السّنين، وبالمِثْل، يُمكن القول أن العَهْدَ القديم هو عِبارَة عن مَخْطوطات قَديمة كُتِبَت في أَوقات مُخْتَلِفة  ومِن قِبَلِ أشخاصٍ مُخْتَلِفين. يُمكِن أو قد لا يُمكن أنَّ الكُتَّاب كانوا الأنبياء أَنْفُسهم، وقد تكون الكِتابات الأصْلِيَّة دُوّنَت بَعْدَ وَفاةِ الأنْبياء.

 

على الأرْجَح تَمَّ تَغْيير ما جاءَ في الرّسالات الأصْلِيَّة من خِلال التَّلاوات المُتَكَررة لها قَبل تدوينها. وِبما أنَّهُ تمَّ تجميع الكِتابات، فهناك الكثير من المواد الهامَّة ضاعَت، ويَجوز أَنَّهُ تَمَّت إضافَة مواد غير ضَروريَّة. ومِثْلَ أي كتاب تمَّت تَرْجَمَتهُ مِن لُغَتِهِ الأصْلَيَّة (باسْتِثناءِ القُرآن الكريم) فقد يكون قد أُدْخَلت مزيداً من الأخْطاء. قد يكون لِكَلِماتٍ مُخْتارة غير صَحيحة تأثيراً كبيراً على المَعْنى.

 

إنَّ تفْسير الكُتُب المُقَدَّسة لَهُوَ بَعْد مَسْأَلَة أُخْرى يجب أن تُؤخَذ بِعين الإعْتِبار. إنَّ تفسير النَّصّ نَفْسَهُ مِنْ قِبَل مختَلَف النَّاس وفي قُرون مخْتَلِفَة، بعيد واحِدها عن الآخَر، سَيُشَكّلُ اختِلافاً كبيراً في الأمر. وبِالمِثْل، سيكون التَّفسير مُخْتَلِفاً اخْتِلافاً كبيراً إذا ما تَمَّ تفْسيرَ النَّص نَفْسَهُ في وقتٍ واحِدٍ مِن قِبَل أُناس مُخْتَلِفين يأْتون من خَلْفَيَّات ثقافيَّة أَو تَعْليميَّة مُخْتَلِفة. إنَّ الإقْتِباسات القُرْآنيَّة الكثيرة المسْتَخدمة في هذا الكِتاب هي ترجمة عن أصْلِ النَّصّ العَرَبِيّ مِن قِبَلِ يوسُف عَلِيّ (1934 و 1938). في مُدَوّناتهٍ حولَ تَفْسيرِ القُرْآن الكَريم يقول:

كثيراً ما تَنْشأ لَدينا صعوبات للتَّفسير لأسْباب مُخْتَلِفة، سأَذْكُر القليل منها فَقَط:

 

  1. لقد اكْتَسَبَت كَلِماتٍ عَرَبيَّة مَعانٍ تَخْتَلِف عن تِلْكَ التي كانت مفْهومَةً للرَّسولِ (صَلَّى الله عليه وسَلَّم) وصَحَابَته. كُلّ اللغات الحَيَّة تَخْضَع لِمِثْلِ هذه التَّحَوُّلات…
  2. وبالرَّغم من كِتابات المُعُلَّقين التي جاءَت في وَقتٍ مُبَكّر، إلا أنَّ اللغة العَربيَّة قد تطَوَّرَت إلى أبْعَد من ذلك بِكَثير، لِدَرَجَة أنَّ المُعَلّقين اللاحِقين قاموا بالتَّخَلّي عن تفسيرات كُتِبَت في وقتٍ سابِق، دون وجود أسْباب كافية…
  3. إنَّ لِجَذْرِ كُلّ مُفْرَدَةٍ في الِلُّغة العَربيَّة الفُصْحى مَعْنى شامِل بحيث يَصعُب تَفْسير كل كَلِمة فيها بِلُغَة تَحْليليَّة حَديثة، وهذا على الرَّغْم من وَضَعِ الكلمة التي جاءَت في النَّص الأصْلي في مواضِعها في النَّص (الحديث التَّحْليليّ)… في كثير من الأحيان تكون الكلمة في اللغة العَربيَّة شعاعاً كامِلاً لِضوء؛ فعندما يَنْظُر المُحَلّل إليها من خلال (منشور) التَّحْليل اللغويّ الحَديث، فَسَيفْقِِد قَدْرا عظيماً من معناها حاصِراً اهْتِمامَهُ بِلونٍ واحِدٍ مُعَيَّن…
  4. ثَمَّة خطأ آخر يطْرَحُ نَفْسَهُ في بَعْضِ الأحيان عن بَعْض المسائل، فالقُرآن الكريم في مُفْرداتِهِ الغَنيَّة يُمَيّزُ بين أَشياء وأفْكار مُعَيَّنَةٍ من خلال كلمات خاصَّة، لا يوجد لها سوى كَلِمة عامَّة في اللغَة الإنجليزيَّة…
  5. … إنَّ خبرة الإنسان في أفضَلِ درجاتها لَمَحْدودة. ففي الفَرد عَيْنِه تنمو وتنْخَفِض وفقاً لِكَفاءَتِهِ ووسْعِ خِبْرَتِهِ. فإذا أخذنا البَشَرِيَّةَ مُجْتَمِعَةً فسَيَكْبر التَّبايُن من عَصْرٍ إلى عَصْرٍ ومِن ناسٍ إلى ناسٍ.

 

يَخْتَلِف كُلّ نَبيّ عن الآخَر في القواعِد والأنظِمة الإجْتِماعيَّة التي يُرسيها وذلك لأن كُل دِينٍ يأتي إلى مجموعة مُعَيَّنة من النَّاس في وقتٍ ومَكانٍ مُعَيَّنَيْنِ. تَتَلَقَّى مُعْظَم الأنبياء أوامِرَ إلهِيَّة صارِمَة بِشأن ما هو مَقبول وما هو غير مَقبول كأقْصى حَدٍّ، إلَّا أنَّ بعض القواعِد والأنْظِمة الإجْتِماعِيَّة قد وضِعَت موضِع تَنْفيذٍ بعد وفاة النَّبِيّ. ليس هُناك شَك في ذِهْني أَنَّ الإسلام جاء مُناسِباً لِشَعْب شِبه الجزيرَةِ العَربيَّة منذ 1400 سَنة. لكنه من الخَطأ افْتِراض أَنَّه جاء ليُناسِب العالَم بأسْره إلى يوم القيامَة. الله تعالى وحدهُ يَعْلَم ما هو أفْضَل لِكُلّ شَعْبٍ وعَصْرٍ. لا يُمكِن لأيّ دين تقليديّ أَن يكون هو الحقيقة الوَحيدة أو الحَلّ الوحيد لِهذه الحَقبة الزَّمَنيَّة ولِلمُسْتَقْبَل في آنٍ واحِدٍ.

 

من المُؤْلِم جِدَّاً أن نَسْمَع عن حَرْبٍ أو صِراعٍ إقْليمِيّ تُغَذّيه الكَراهِيَة الدّينيَّة. لقد أعْطانا التَاريخ أَمْثِلة كثيرة لِهَذِهِ الصّراعات. الحُروب الصَّليبيَّة المَسيحيَّة  من القرن الحادي عَشَر إلى الثَّالِث عَشَر التي حاوَلَت تَحْريرَ الأراضي المُقَدَّسة من أيْدي المُسْلِمين. هناكَ حروب عديدة كهذه في العَصْرِ الحَديث: الحُروب بين العَرَب وإسْرائيل. الحُروب الأهْلِيَّة في قُبْرُص، لبنان، إيرلَندا، البُوسْنة؛ الصّراعات في الهِنْد بين السّيخ والهِندوس، المسلمين والهِندوس. هذه الصّراعات هي في الواقِع إقْتِصاديَّة أو إقْليمِيَّة، مع تَصَنُّعٍ دِينِيّ. ما الذي يدعو بَعْضَ أعضاء دين واحِد إلى النّظَر باحْتِقار إلى نُظرائهِم من دين آخَر؟ ما الذي يُؤَكّد لهؤلاء أنّهُم على يَقينٍ مُطْلَق وأنَّ الآخَرين على خَطَأ؟ ما هو الدَّور الذي تَقوم به القيادات الدّينيَّة لِتَأجيج سُلوكٍ كَهذا؟ إذا كُنْتَ مُسافِراً بالسَّيَّارَة من جَدَّة إلى الطَّائف في المملَكة العَربيَّة السُّعوديَّة، سَتَصِل إلى نُقْطَةٍ حيث يتِمّ إغلاق الطَّريق على الجَميع باسْتِثناء المُسْلِمين لأنَّهُ يَمُرُّ عَبْرَ مَكَّة المُكَرَّمَة. على النَّاس من الأديانِ الأُخْرى أن تَنْعَطِفَ في مَسارٍ طويلٍ يُسَمَّى عادَةً طَريق الكُفَّار. هل في الحَقيقة أنَّ مُسْلِمِيّ المملَكة العَربيَّة السُّعوديَّة يَتْبَعون روحَ رِسالة محمَّد (صَلَّى الله عليه وَسَلَّم)؟ ما الذي يجعل أولئكَ المُسْلِمين يَظنُّون أنَّهم أنقياء وأن الآخَرين نَجِسون؟

 

لقد حان الوقت لإزالة هكذا حواجِز. خِلافاً للحواجِز السياسيَّة، كَجِدارِ بِرلين مَثَلاً، الذي اسْتَمَر لعُقودٍ قَليلة، فإنَّ حواجِز الكَراهِية الدّينيَّة والتَّمييز العُنْصُرِي اسْتَمَرَّت لِعِدَّةِ قُرون. كيف يُمْكن أنَّ الآباء والأمَّهات يُرَبُّون أبناءهُم على الإحْتِقار وحَتَّى كَراهية من هُم من أديان أُخْرى؟ كيف يمكن التَّراجُع عن هكذا كَراهية؟ هل يُمكن لأشخاص من لُبنان والبوسْنَة وغيرِها من الأماكِن تضميد جراحِهِم بين لَيْلَةٍ وَضُحاها؟ هل الإبنُ قادِر على مُسامَحَةِ المجموعة التي قَتَلَت والدهُ؟ لقد انتهَت الحَرْب الأهْلِيَّة الأمْريكيَّة مُنذُ أكْثَر من قَرْن، لكن الكَراهِيَة العُنْصُرِيَّة والتَّمْييز لا يَزالا قائمَيْن في قُلوبِ بَعْضِ الأمْريكيين. إنَّه لِلْحُروبِ الأهليَّة الدّينيَّة نَفْسِ العواقِب.

 

إنَّ العُقَلاء الحَقيقيُّون، بدلاً من أن اعْتِماد الكراهِية التي تُعَزّز الحُروب الدّينِيَّة، يحاولون أوَّلاً فَهْمِ ما يُعَلّمهُ إيَّاهُ دينهُم وبعد ذلك ما يُعَلّمُه الدّين المُواجِه له. لكن القُوَّة المُثْلَى للتَّغيير وَوَضْعِ حَدّ للكَراهِية لا يأْتِيان إلَّا مِنْ داخِلِ قُلوبِ النَّاسِ.

 

صورَة جُزْئيَّة 3: دُورُ العِبادةِ

 

مُنْذُ ألْفَيّ سَنَة دخل يسوع المسيح الهيكل المُقَدَّس في القُدْس حيث تَمَلَّكهُ الغَضَب لدى دُخوله: ” وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الحَمام وقالَ لَهُمْ: مَكْتُوبٌ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ” (مَتَّى 21: 12-13) ومن المُناسِب أيضاً مُراجَعَة فِكْر يسوع المسيح اتّجاهَ رجال الثَّوب (المَظاهِر الخارِجِيَّة) في وقْتِهِ:

 

  • حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ
  • قَائِلاً: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ
  • فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ.
  • فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ
  • وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ
  • وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ
  • وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!
  • وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ.
  • وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
  • وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ.
  • وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ.
  • فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ.
  • «لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ.
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْناً لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفاً!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ!
  • أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟
  • وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ!
  • أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟
  • فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ
  • وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ
  • وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللَّهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ.
  • أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً!
  • أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّاً.
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً وَهِيَ مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ.
  • هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَاراً وَلَكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً!
  • وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ
  • وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ!
  • فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ.
  • فَامْلَأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ.
  • أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟

(مَتَّى 23 : 1-33)

 

جاءَ في القُرآن الكَريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم) (سورة التَّوبة 34)

 

 

في نَواحٍ كثيرة، لا يوجد فرق كبير بين رِجال الثَّوب في يومنا هذا وبين أمثالهم وَقْتَ السيّد المَسيح. وفي حالات كثيرة، تفوَّقوا عليِهِم في النّفاق والسُّلوكِ الأنانِيّ. هذا لا يَعْني أن جميع رِجال الثَّوب هُم كذلك. فمُنْذُ البِداية، إنَّ أغْلَبَ رِجال الدّين قَدْ دُفِعوا ليكونوا على ما هُم عليه من خِلال دافِع التَّحَلّي بالأخْلاقِ العاليَة والحِسّ لِمُساعَدَة الإنْسانِيَّة والتَّقَرُّب من الله في نَفْسِ الوَقت. لكن، وفي حالاتٍ كثيرة، وبعد أن بَرُد حماسهُم الأوَّل، هيمن عليهم ضَعْف النَّفْس والجَسَدِ. إنَّ الصّراع بين الخير والشَّر في داخلهم الآن هو أقوى من أي وَقْتٍ مَضى. أوَّلاً، أصْبَح للعامَّة إنطباعاً عنهم وبالتَّالي لا يُمكنهم إطلاقُ العَنانِ لِرَغباتهم بشَكلٍ عَلَنِيّ. ثانياً، إنَّ أغلبهم قد أقْسَمُوا “قَسَمَ عُزوبةٍ” لايُسْتَهانُ بِهِ، ومِن هُنا تَبْدَأ المُفارَقَة.

 

نحن جميعاً بَشَر، وكُلُّنا بِحاجَةٍ إلى أُمور مادِيَّة وغير مادّيَة. لَكنَّهُ من غير اللائق التَّبْشير بالعِفَّة في حين تَتِمُّ مُمَارَسَة عِلاقات حُبّ غير مَشْروعة سِرَّاً. إنَّهُ كالكَذِب تَماماً. هل يُمكن للمُجْتَمَع أَن يتسامَح مع فِكرة أن يكون لديه ضابِط شُرطة أدَّى قَسَم تَطْبيقِ القانون لَكَنَّهُ قام بِقُبول رَشاوى سامِحاً بانْتِهاكِ القانون؟ لِماذا يجب أن يكون رِجل الدّين مُخْتَلِفاً؟ إنَّهُ لَأمْرٌ مُحْزِنٌ جِدَّاً أن نَقْرَأ في الصُّحُف عن الفضائح التي تَنْطَوِي عليها رِجال الدّين؟ كيف يُمْكِن للمُجْتَمَع أن يَتَفاعَل حِيال التَّحُرّش الجِنْسِيّ والإغْتِصاب من قِبَلِ رِجال الدّين؟ كيف يُمكِن للوالدين بعد قِراءَةِ هكذا فَضائح أن يَثِقوا بأنَّ أَبناءهم سيكونون في مأمَنٍ تامّ مع رِجال الدّين ؟ ماذا عَن سوء التَّصُرُّف المالي عِنْدَ بَعْضِهِم؟ لقد صُدِمْتُ لَدى سَماعي في برنامَجِ تحقيق تِلفزيونِيّ  أَنَّ 35-50 بالمِئة من القَساوِسَة الكاثوليك هُم مُثْلِيُّو جِنس، وأنَّهُ من المُسْتَبْعَد أن تكون أعداد مُمَاثِلَة موجودة في طوائفَ أُخْرَى. لَسْتُ هُنا لأدِينهُم، ثُمَّ لا يُمْكنني قِراءة أَفكارِهم لكنَّي فقَدْتُ إيماني بِهِم. إنَّهُم ليسوا على صَواب في زَعْمِهِم تَمثيل الكَنائس والمَساجِد والمَعابِد اليَهوديَّة وما تُسَمَّى “بِدُورِ العِبادَةِ”، ثُمَّ أنَّ كثير منهم تتَوَلَّى إدارَتهُم أناس مُخادِعون. هذا (الفَهْم) هو عُنْصُرٌ آخَرَ مِنَ الفَلْسَفَةِ الدَّاهِشيَّة.

 

منذ أكْثَرِ مِنْ عامٍ بِقَليلٍ زُرْتُ كاتِدْرائيَّة القديس بولُس في لَندَن. وعِنْدَ بلوغي المَدْخَلِ الرَّئيسِيّ ذَهَبْتُ إلى الباب الذي على اليسار، فَقِيلَ لي من قِبَل كاهِنَيْن بأنَّهُ علَيّ اسْتِعْمالِ الباب الذي على اليمين. ذَهبْتُ إلى الباب الذي على اليمين وفَتَحْتُهُ، فَبَهَرَني منظَر ثلاثة كَهَنَةٍ واقِفين وَراءَ آلاتِ مُحاسَبةٍ. دَفَعْتُ رُسوم الدُّخول ودَخَلْتُ القاعَةَ الرَّئيسيَّة. عِنْدَ هذه النُّقْطَة صُدِمْتُ لِرُؤيَتِي اثنين او ثلاثَةِ محلات تِجارية للهَدايَة التّذْكاريَّة. سألْتُ نَفْسي: ” كيف يمكن لِهذا المَشْهَد أن يكون مُخْتَلِفاً عمَّا واجَهَهُ يسوع عِنْدَ دُخولِه الهيكل العَظيم؟ وبالمُصادَفة، في طَريقي للخُروج، رأيت نفْسَ الكاهِنين اللذين قالا لي أن أسْتِخدم الباب الذي على اليَمين، وكانا الآن يقومان بمُطارَدَةِ فتاة لأنَّها بِطَريقَةٍ أو بِأُخْرَى دَخَلت عَبْر الباب الخَطأ (أي ليس الباب ذا آلاتِ التَّسْجِيل النَّقْدِيَّة.)

 

دون رِجال دين كيف يُمْكِن للنَّاس الصَّلاة إلى الله ؟

ومتى صليت فلا تكن كالمرائين، فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم

وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية” ( مَتَّى 6: 5-6)

إنَّها عِلاقةُ واحِدٍ إلى واحِدٍ، بين كُلّ واحِدٍ مِنَّا والخالِق عَزَّ وَجَلّ، وهي على وَجْهِ التَّحْديد ما تَدْعُو إلِيْهِ العقيدَة الفَلْسَفِيَّة الدَّاهِشيَّة. إنَّها مُكَوّنٌ آخَر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

صورة جُزْئيَّة 4: الحياةُ والمَوتُ

 

لِماذا نُولَد على الأرْض؟ من نحْن؟ هل نحن موجودون قَبْلَ مَولِدنا؟ إلى أين نحن ذاهِبون بعدَ الموت؟ هل هُناكَ حياةٌ خارِج هذا الكوكَب؟ أو أننا وحْدنا في هذا الكون؟ هل لَدينا خِيار أن نَعيش أو أن لا نَعيش هذه الحياة؟ أو كان قد فُرِضَ عَلينا من قِبَلِ أبائنا؟ أو من قِبَلِ الله تعالى؟ ما هو الغَرَض مِنْ وجودنا؟ لِماذا نُولَد مُخْتَلِفين كثيراً عن بَعْضِنا البَعْض؟ لماذا يولَد بعض الأشخاص أغنياء في حِين أنَّ آخَرين يولَدون فُقَراء جِدَّاً؟ لماذا يولد بعض النَّاس مع مواهِب عَظيمة- موزارت، إينشتاين، شكسبير- في حين أَنَّ البعض لا يمتَلِكون أيَّة مواهِب اسْتِثنائيَّة، بالكاد أيَّة موهِبَة، أو حَتَّى مع تَخُلُّفٍ عَقْلِيّ؟ لِماذا يولَد بَعْض النَّاس مع عاهَةٍ جَسَدِيَّة، مثل العَمى أوالصَّمم أو الشَّلَل في حين أنَّ آخَرين يولَد أصِحَّاء؟ لِماذا يُولد شخص في دولَةٍ إفْرِيقيَّة، في حين أنَّ غيره يولَد في أوروبا الغربيَّة أو في الولايات المُتَّحِدةِ الأمريكيَّة؟ لماذا يولَد البعْض في كَنَفِ أُسْرَةٍ رَحيمَةٍ ومُحِبَّةٍ، في حين انَّ غيرهُم يولَد في كَنَفِ أسْرَةٍ بَخيلَةٍ وبَغيضَةٍ؟ لِماذا بعض النَّاس يُحِبُّون أخوانهم وأخواتهِم كثيراً في حين أنَّ غيرهُم لا يَحْتَمِلون الوقوف معهُم ِدَقيقة واحِدةٍ؟ هل الإنسان هو الكائن الوحيد ذو الرُّوحِ الحِيَّة مع النَّفْسِ؟ هل الحيوانات لديها مِشاعِرٌ؟ ماذا عَنِ النَّباتات؟

 

هذه من الأشياء القليلة المُحَيّرة في الحياة. إنَّ مُعْظَم النَّاس يَنْظُرون إلى الحياةِ بِطَريقَةٍ مُبَسَّطة ويتَجَاهَلون ما هو غير بالِغ الوضوح. خُذ على سبيل المَثال كَلِمات، سيفاك داس، التي نَشَرَتْها  Abiding publications ” يَقول: (مِنَ الواضِح أن البَهْجة والسَّعادة هُما الهَدَفُ النّهائيّ للحياةِ كُلّها. و أيضاً ” في البدءِ كانت البَهْجة، كانت البَهْجة هي الوَعْي، والوعي كان البَهْجة. إنَّها لا تَزال على هذا النَّحو، وستكون دائِماً على هذا النَّحو. البَهْجَة لا نِهائيَّة. الوَعي لا نِهائيّ. الوجود هو البَهْجَة. البَهْجة هي الوجود. الوجود هو الوعي. الوَعْيُ هو الوجود.)

إنَّ ما يبدو غائباً هُنا هو عَدَم حُضور (الصِّلَة). لِماذا نوجَد كما نَحْنُ؟ ما هي علاقتنا مع الكائناتِ الأُخرى؟ كيف لَنا أن نتوافُق في هذا الكون الشَّاسِع؟ ما الذي سَيَحْصُل مِنَّا بعد موتنا؟ من أين أتينا؟ لِماذا نحن مُخْتَلِفون جِدَّاً عن بعْضِنا البَعْض؟ إنَّ هذه وقَضايا أُخْرى هي من الأهَميَّة بِمَكانٍ لِتُمَكِّنَنا من الإسْتكشاف والفَهْم لتَكون لَدينا فلسفة حياة ذات مَعْنى. إنَّ كلمات “سيفاك داس” جميلة. إنَّ الإنْسجام مع الكون وَالمخلوقات الأُخْرى يَجِب أن يَتَحَقَّق، لكن أيضاً، ما هو مَفقودٌ هُنا هو “لِماذا”؟  إذا كانت البهجة هي الغَرَضُ مِن وجودِنا فاسْمَحوا لي أن أطْرَحَ السُّؤال التَّالي: كيف وَصَل سيفاك داس إلى هذا الإستِنتناج؟ هل يوجَد في أيّ مكان في الكِتاب المُقَدَّس أنَّ الأمْر كذلك؟ هل قيل الأمر بهذه الطَّريقة مِن قِبَلِ نبِيّ؟ أم أنَّهُ علينا أن نقْبل كلماتهِ بِبَساطَةٍ على أنَّها الصَّحيحة؟

 

فَعَن ماذا هي الحياة في كُلّ شيء إذَن ؟ هل هي عَدَد المَكاسِب التي نجْمَعها؟ مبلَغ المال الذي لِدينا في البَنك؟ نوع السَيَّارَة التي نَقودُها؟ حجمُ المَنْزِل الذي نَعيشُ فيهِ؟ الحَيُّ الموجودون فيه؟ المدارِس التي نَحْضُرُها؟ عَدَدُ ألأطفال لَدينا؟ الخصائاص المادِيَّة والفِكْريَّة لِكُلّ فَرْدٍ؟ مَرْكزُنا الذي نَشْغَلهُ في وَظَائفنا؟ مكانتنا التي نحْملها في المجْتَمَع؟ الوقت الذي نقضيهِ في الدّراسة والقِراءة؟ اللحَظات المُمْتِعة التي نَقضيها في الألعاب الرّياضيَّة وغَيرِها من الأنشِطَةِ البَدَنيَّةِ؟ مقدار ما نَدَعُهُ للجِنْس؟ المُشاركة والعَطاء؟ الرَّحْمة والمَحَبَّة اتّجاهَ الآخَرين؟ مَحَبَّة الطَّبيعَةِ والمَخْلوقات؟ العَمَل الشَّاق أو تَفاديه؟ الفِئات الإجْتِماعِيَّة التي ننتَمي إليها؟ الكنيسة، الجامِع، المعْبَد، والكَنيس الذي نَحْضُرُهُ؟ الطَّعام الذي نَأْكُلُهُ؟ البِلاد التي نَعيشُ فيها؟ اللغة التي نَتَحَدَّثُ بِها؟ قد يقولُ البعض، إنَّهُ كُل هذه الأُمور وأكثَر من ذلك؛ قد يقول آخرون إنَّهُ ليسَ سوى عدد قليل مِن هذه الأشياء؛ وقد يقول عَدد قليل أنَّهُ بِرَغْمِ أنَّا بِحاجَةٍ لِعَددٍ كثيرٍ مِن هَذِهِ الأُمور لِتَكونَ لَدينا حياةً ذات مَعْنى، إلا أنَّها لا تُعْطي تَعْريفاً عن ما هي الحياة في كُلّ شيء. يأتي هذا الأمر الأخير في ضوء الفَلسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

يَرى المُلْحِدون أن هذه الأمور هي من أساسيَّاتِ الحياة. فَبِمُجَرَّد أن تنتهي الحياة لن يعود لديك شيء. أقولُ لَهُم: ” إذا كان هذا كل شيء عن الحياة فأنا لا أريدُها، أعطوني سبباً واحِداً لِماذا يَجِب أن أسْتَمِرُّ في العَيشِ؟” مِنَ المُثير للإهتِمام أن نُلاحِظ أنَّ العديد من المُلْحِدين لديهِم مُثُلاً عُلْيا في الحياة. وحَتَّى بالرَّغْمِ من أنَّهُم لا يُؤمنون بوجود خالقٍ أو بالحياةِ الأُخْرى، فإنَّهُم يُمَيّزون بين الخير والشَّر، والحَق والباطِل، والصَّواب والخطأ، لا لِشيء إلَّا ليُحَسّنوا من قيمة ما يَظُنوه صَحيحاً في الحياة، ولكي يَنقلوا هكذا حياة لأبْنائهِم. البعض منهُم ناشِطٌ من أجل بيئةٍ أنْظَف، ويُظْهِرون السياسة، والهياكِل الإجْتِماعيَّة، والبعْضُم منهُم لا يُعْطي بالاً.

 

إنَّ ما يَفْهَمُهُ النَّاس من تَعاليم الكُتُب المُقَدَّسة هو وجود الحياة بعد الموت. على الإنسان العَيْش بالإسْتِقامَةِ واتّباع القواعِد المنصوص عَليها في الكُتُب المُقَدَّسةِ لِتَحْقيق حياة أبديَّة هانِئةٍ، حيث لا ألم ولا بُؤس على الإطلاقِ. إذا انْحَرَف الشَّخْص عن القواعِد المَنصوص عَنْها في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ وعاشَ حياة  شَرّ وإثْمٍ، فسيكون بانْتِظاره حياة بُؤسٍ وألَمٍ أبَديَّينِ. إنَّ المفهوم العام الذي يسْتَوعِبُهُ النَّاس مِن التَّعاليم الدّينِيَّة التَّقليدِيَّة عن الحَياة والموت يختَصُّ بالطَّبيعة التَّبادُليَّة للنَّعيم والجَحيم. يُمكِن للإنسان أن يَذْهَب إمَّا إلى النَّعيم أو إلى الجَحيم. يُنْظَر إلى الحياة بعد الموت على أنَّها واحِدة مِن قُطْبَين: إحْداها مُشْرِقة، بَهيجَة، وجَيّدَة، في حين أن الأُخْرى مُظْلِمة، بائِسَة، وشِرّيرَة (أُنظُر الرَّسْم التَّوضيحي 2)

 basic

الرَّسْم التَّوضيحيّ 2

النَّعيم الجحيم الأرْض

في الماضِي، قَدَّمَت الكاثوليكيَّة “المَطْهَر” أو اللاشَيء، وهو مُعَدٌّ لِغير الكاثوليكيين. آمَنَ الكاثوليكيُّون بأنَّ غير الكاثوليكيين يدْخُلون في حالَة أبَديَّة من ” اللاإرْتِياح النَّفْسِيّ” كَعَذاب وَحيد، وذلك لأنَّهم لن يقِفون في حَضرَةِ الله. كانت هذه واحِدة من أكثَر المُعْتَقَدات سَلْبِيَّة في المَذْهَبِ الكاثوليكيّ. كيف يُمكن أن يَعْتَقِد الكاثوليك أن كُل من هو غير كاثوليكِيّ  مَحْكوم؟ إنَّ مبدأ النَّعيم والجحيم يبدو بَسيطاً بِما فيه الكِفاية، لكن دعوني أسألكم السُّؤال التَّالي: أليس مكتوباً ”  لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ”؟ (رومية 6: 23) من مِنّا بِلا خطيئة؟ هل هذا يعني أن جميعَنا مَحْكومُون؟ إذا سَألت رِجال الدّين حولَ الأمْر، يقولون لَكَ إنَّ الله يَغْفِر، لِذلك لا تَقْلَق بِشأنِ ذلك. إذا كان هذا هو الحال، فما هو معنى إيقاف رَجُل بِسَبَبِ ارْتِكابه كُلّ ماخَطَرَ ببالِهِ من شَرٍّ، ثُمَّ قُبَيل موتِهِ يتوب ويَطلُب المغفِرة بِصِدْق؟ هل هذا الرُّجُل مُتَّجِهٌ إلى السَّماء للإنضِمام إلى أولَئكَ الذين عاشوا حياتهم كُلّها بالبِرّ؟ لماذا أغْرَقَ الله تعالى البَشَريَّة جَمْعاء في أيَّامِ نوح؟ كيف يُمْكِن أنَّ الله تعالى لم ينتظِر حَتَّى يموتوا؟ لِماذا لَم يَغْفِر الله تعالى لَهُم؟ هل كان مَحْكومٌ عليهم جميعاً بالذَّهاب إلى الجحيم؟ ثَمَّةُ خطأ فادِحٌ هُنا، وأنا لا أعْتَقِد بأنَّ لَدينا الصُّورة الكامِلَة. علينا أن نتَذَكَّر أن أحْدَث الأديان الرَّئيسيَّة جاءت مُنذُ 1400 عاماً. هل يُعْقَل أنَّ يكون النّاس في ذلك الوقت عاجِزون عن فهم شَرْحِ أكْثَرَ شُمولاً عن النَّعيمِ والجَحيم؟ إن كُل شخص يقرأ العهد الجديد سيأتي على الآياتِ التَّالِية:

 “فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: فَسِّرْ لَنَا هذَا الْمَثَلَ. فَقَالَ يَسُوعُ: هَلْ أَنْتُمْ أَيْضًا حَتَّى الآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟” ( مَتَّى 15: 15-16)

”  ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَا تَعْلَمُونَ هذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟” ( مُرْقُس 4: 13)

” وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ.” (مُرْقُس 4: 34)

 

” إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟” ( يوحَنَّا 3: 12)

 

إن الجواب الذي يُعْطى لطفل يسأل كيف تُنْجَب الأطفال يكون في العادة  بِقَصَّةِ “الطُّيور والنَّحْل”. أعْتَقِدُ أنَّ الكُتُبَ المُقَدَّسة تُعْطينا بالضَّبْط  نُسْخة قِصَّة “الطُّيور والنَّحْل” كَنُسْخَةٍ عن الحقيقة. ومع ذلك، هُناك العديد من الآيات في الكُتُب المُقَدَّسة تُلَمِّح إلى الحقيقة المُطْلَقة حول النَّعيم والجحيم. ولكن قبل أن نَبْدأ باكْشافِها، هُناك عَدداً من القَضايا تَحْتاج إلى مُعالَجة.

 

إنَّ جميع الكُتُب المُقَدَّسَةِ تَنُصُّ على أَنَّهُ مِن إحْدى صِفاتِ الله تعالى هي أنَّهُ عادِل ونَزيهٌ ومُحِبُّ. لكن كيفَ نُفَسّر وجود المُعاناة غير المُتَكافِئة على الأرْض؟ لِماذا يولَد شَخْص ما صحيحاً في حين أن غيرهُ يولَد مع مَرَضٍ جَسَدِيّ؟ لِماذا يولَد شَخْص ما في الوِلايات المُتَّحِدَةِ الأمريكيَّة حيث الدَّواء والغِذاء مُتَوَفّران، بَيْنَما يُولَد شَخصٌ آخِرَ في دولة إفريقيَّةٍ فَقيرَةٍ حيث المجاعَةِ والمَرض لا يَسْمَحان للطّفْلِ بالبَقاءِ على قَيْدِ الحَياةِ في مَرْحَلَةِ الطُّفولَةِ؟ لِماذا يولَد شخص ما غَنِيَّاً في حين أنَّ آخر يولَد في فَقْرٍ مُدْقِعٍ؟

إذا سَألْتَ رِجال الدّين فإنَّهُم يقولون لك هذه هي مَشيئةُ الله تعالى، وأنَّ الكُلَّ يُقاضى وِفْقاً لِتَجَارِبِهِ. إنَّ هذا (الكلام) لا مَعْنى له على الإطلاق. إذا كُنَّا نُفْحَص من قِبَلِ تعالى، فَلماذا يُجَرَّب شَخْص ما باخْتِبار أسْهَلَ من غَيْرِهِ؟ قد يَمْتَهِنَ شخص فقير وظيفَتين لِتَغْطِيَةِ نفَقاتِه في حين انَّهُ ليس من الضَّروري لِشخص آخر من الطَّبَقة الوسْطى أو مِنَ الأثْرِياء أن يَقوم بِذلك. وعلى نَفْسِ المِنوال، على الشَّخْصِ الفقير أن يُعانِي من الجوع والأمْراض وعَدَمِ وجود الدَّواء والمَلابِس الثَّقيلَةِ والمأوى. ولكن لِماذا نحن غير  خاضِعين لِنَفْسِ الظُّروفِ على الأرْض؟  لِماذا يُولَد أَحدهم أَعْمى في حين أنَّ غيرهُ يولَدُ مُكْتَمِلَ البَصَر؟ لِماذا يَعيش البعْض حياةً أكثر صُعوبَةٍ من غَيرِهِ؟ لِماذا بَعْض النَّاس، مِثلَ إينشتاين وموزارت،  يولدون مع مواهِب اسْتِثْنائيَّة في أن غيرهُم يُولَدون مع قليل مِنها أو مع تَخَلُّف عَقلِيّ؟

 

إذا بَحَثْنا في الكُتُبِ المُقَدَّسَة للحُصُولِ على إجابات، فَسَتُصْبِح الصُّورة أوضَح قليلاً: ” وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟” (يوحَنَّا 9: 1-2) وبِعِبارَةٍ أُخْرى تَمَّ إيجاد رابِط بين الخَطايا والعُيوبِ الجَسَدِيَّة. ولكن كيف يُمْكِن أَن يكون هذا الرَّجُل دَفَعَ ثَمَنَ خَطاياه إذا كان قَد ولِدَ أَعْمى؟ لكي يكون هذا الأمر صَحيحاً يجِب أن يكون هُناكَ حَياةً سابِقة. إنَّ هذه العِلاقة بين الخَطايا والعُيوب الجَسَدِيَّة قد ذُكِرَت بِشَكلٍ واضِحٍ من قِبَلِ يسوع المَسيح. ” أيما أيسر ان يقال للمفلوج مغفورة لك خطاياك أَم أَن يقال قم و احمل سريرك و امشِ” (مُرْقُس 2: 9) أي أنَّ غُفْرانَ خطاياه هو علاج عيْبِهِ الخُلُقِيّ.  ” بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل و قال له ها أنْت قد بَرِئْت فلا تُخْطِئ أيضاً لئَلا يكون لك أشَرّ” (يوحَنَّا 5: 14)

“فاجاب يسوع و قال لهم ان ايليا ياتي اولا و يرد كل شيء

و لكني اقول لكم ان ايليا قد جاء و لم يعرفوه بل عملوا به كل ما ارادوا كذلك ابن الانسان ايضا سوف يتالم منهم

حينئذ فهم التلاميذ انه قال لهم عن يوحنا المعمدان” (مَتَّى 17: 11-13)

 

كيف يُمْكِن أن يكون إيلِيَّا هو يوحَنَّا المَعْمَدان؟ ألا يَعْنِي هذا أنَّ هُناكَ حَياةً سابِقَة، وحياة بعد الموت، وبِعِبارَةٍ أُخْرى، التَّقَمُّص؟

وَرَدَ في القُرْآن الكَريم” كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (سورة البَقَرة 28)

ليست حياتنا الرَّاهِنة سِوى فَصل صَغير من كِتاب الحياة. إنَّ الوثوب من فَصْلٍ إلى آخر يَتَحَقَّق من خِلال التَّقَمُّص. هذا مُكَوّن آخَر من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

 

والآن بعد أن وضعنا حقيقة أنَّ كُلّ فَرْد هو موجود قَبْلَ الوِلادة، مِمَّا يَعْني أنَّهُ سيكون موجوداً مَرَّة أُخْرى في حياةٍ أُخْرى بعد الموت، إذ ذاك نَسْأل لِماذا؟ ما  الغَرض من نِعْمَةِ التَّقَمُّص؟ من المُهِمّ جِدَّاً أن نَفْهَم أنَّ كُلّ ما نَقوم به في هذه الحياة يُؤَثّر على الحياة القادِمة-أو رُبَّما الحَيَواتِ العديدة المُقْبِلَة- وأَنَّ كُلّ ما فَعَلْناهُ في الحَيَواتِ السَّابِقة يُؤَثّر على هذه الحياة ورُبَّما حَيواتٍ مُقْبِلة.

 

“وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ” (سورة الشُّورى 30)

” أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصارَهُمْ” (سورَة محمد 23)

“عَظِيمٌ فِي الْمَشُورَةِ، وَقَادِرٌ فِي الْعَمَلِ، الَّذِي عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَانِ عَلَى كُلِّ طُرُقِ بَنِي آدَمَ لِتُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، وَحَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ” (إرميا 32: 19)

يكافئني الرب حسب بِرِّي. حسب طهارة يَدي يَرُدُّ لي” (مزامير 18: 20)

 

إنَّ هذا يُغَيُّر الصُّورة الكامِلَة للعدالة. الآن نَفْهَم أن الطّفل الكائن في الدولَة الإفْريقيَّة الفقيرة قد “اسْتَحَقَّ” أن يولَد هُناك لأسباب لا يَعْلَمها سِوى الله تعالى وَحْدَهُ. 

 

لأن الله تعالى هو العادِل والمُنْصِف، وبِما أنَّنا بعيدون كُلّ البُعْد عن الكمال وليس بإمكاننا أن نَعيش حياتنا بِأكمَلِها دون ارْتِكابِ ذَنْب، كان التَّقَمُّص ليعطي كُل واحِدٍ مِنَّا بِدايةً في الطُّهْر. سَنُعاقَب عن الأعمال السّيّئة التي اجْتَرَحْناها في حَيَواتِنا السَّابِقة، وسَنُكافأ عن أعْمالِنا الصَّالِحة. إذا نال كُلٌّ مِنَّا عُقوبَة كامِلة عن ذُنوبه، فَسَتُصْبِح الحياة جَحيماً لا يُطاق. لكن لأنَّ الله تعالى رَحيم، فإنّا وفي كَثير من الحالات ، لا ننال عقاباً كامِلاً مَرَّة واحِدة وعلى أكْمَلِ وَجْهٍ. “… وَيُعْلِنُ لَكَ خَفِيَّاتِ الْحِكْمَةِ! إِنَّهَا مُضَاعَفَةُ الْفَهْمِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُغْرِمُكَ بِأَقَلَّ مِنْ إِثْمِكَ” (أيُّوب 11: 6)

 

تأخُذ دورة التَّقَمُّص بالإسْتِمرار طالما أنَّهُ  يَتِم ارْتكاب خطيئة واحِدة. الآن نَفْهَم ما المَقْصود بِ ” لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا” (رومية 6: 23) بمُجَرَّدِ أن نُصْبِحَ طاهِرين، تكون الحياة الأبَدِيَّة بانْتِظارِنا، حيث لا موت. ومن ناحية أُخْرَى، إذا واصَلْنا التَّراجُع، فسيكون مَصيرنا المعاناة الأبَديَّة. من وجهَةِ النَّظَرِ هذه وعندما ننظُر إلى من حولِنا وَنَرى الأصِحَّاء والمَرْضى، الأغْنِياء والفُقَراء، الموهوبين والجاهِلين، سَنُدْرِك أنَّنا مَحْكومون من خِلالِ نِظام كونِيّ عادِل. ” وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ۗ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ” (سورة الأنعام 39).

 

فَكيف يُؤَثّر هذا التَّغْيير في تَصورنا عَن النَّعيم والجحيم؟ والآن وبَدَلاً من إظهار عِلاقة النَّعيم والجحيم على أنَّها تَبادُليَّة وعلى أنَّهما بِمَنْأى عن الأرض (أنْظُر إلى الرَّسْم التَّوضيحي 2) حيث يَظْهَرانِ على أَنَّهُما طَرَفَيّ نَقيض، في احْتِمالات، رُسِما بِشَكْلِ (طِيفٌ مَنشورِيّ).

هُناكَ توجَد أكثر العوالم الماديَّة طهارة، وهذه هي أقْصى دَرَجات النَّعيم. وبالإضافَةِ إلى ذلك، توجَد أكثر العوالم حلكاً، هي أقصى درجات الجحيم. إنَّ كُلّ ما بَيْنهُما هو مزيج من (الدَّرجات النَّعيمِيَّة والجَحيمِيَّة) ومن (مَجْدِ الدَّرَجة الرُّوحِيَّة). وَوِفْقاً لِهذا التَّعْريف، نحن نَعيش في عالم يجمع بين وَمضاتٍ من المُعاناة والسَّعادَة على مُخْتَلَفِ المسْتَويات حيث تتشَكَّل حياتنا. وبِعِبارَةٍ أُخْرى، في بعض الأوقات نَشْعُر على الأرْض بِجَوّ شبيهٍ بالجحيم، وفي أحْيان أُخْرى نَشْعُر في جوّ شبيه بالجَنَّة (أُنْظُر الشَّكل 3). من المُسْتَحيل الإنتقال من مَرجعٍ (حَياتِيّ) ما إلى أعْلى دَرَجات النَّعيم بِخطْوَةٍ واحِدَةٍ. فهذا يتطَلَّب كَمالاً واخْتِبارات تسْتَعْصي على فَهْمِنا؛ فَمَنْ هو كامِلٌ؟ وبالمِثْل، فَإنَّ تَعَدُّد الدَّورات التَّقَمُّصِيَّة تَمْنَع الإنْحِدار إلى أقصى الجحيم. إِنَّ الإيمان (بِوجود) نِظامٍ عالمَي للعدالَة يَرصُد أعمالنا الشّريرة مُقابِل سُلوكنا الصَّالِح، مُنَفّذاً الجزاء العادِل إزاءهما لَهُوَ مُكَوّنٌ آخر من الفَلْسَفة الدَّاهِشِيَّة.

expanded

الرَّسْم التَّوضيحيّ 3

يقول الإعْتِقاد الشَّائع أنَّ الإنسان يَذْهب إمَّا إلى النَّعيم أو إلى الجحيم بعد مَوتِه

إنَّ الحياة على الأرْض غير مُقْتَصِرة على الهيئة البَشَريَّة فَقَط. بل تَمْتَد إلى جميع الأجناس لِتَشْمل الحياة الحيوانيَّة والنَّباتِيَّة وحَتَّى المواد غير الحَيَّة. لدى جميعها عواطِف، وحُرِيَّة الإخْتيار بين الخير والشَّر. ومن المُمْكِن جِدَّاً أن يكون كُلّ واحِد مِنَّا قد وُجِدَ على هيئة حيوان أو نبات أو جَماد في حياة سابِقة، ومن المُمْكِن جِدَّاً أنْ نُصْبِح كذلك، في حَياةٍ مُقْبِلَةٍ. على الرَّغْم من أن الحيوانات لا تَسْتَطيع التَّحَدُّث إلينا بِلُغَتِنا، فلا مُشْكِلَة لديها في مخاطَبَةِ بعْضها البَعْض باسْتِخدام لُغَتِهِم الخاصَّة. إنَّ  للحيوانات عالَمٌ خاصٌّ تَحْكُمُهُ قوانين خاصَّة. عليها الإخْتِيار بين الخير والشَّر، تماماً كما نَفْعَلُ نحن. لا نستَطيع مخاطَبَتها وذلك لأسباب مَكْتُومَةٍ عَنَّا. جاء في القُرْآن الكَريم: ” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُوْنَ” سورة الأنعام 38

”  فَاسْأَلِ الْبَهَائِمَ فَتُعَلِّمَكَ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ.
أَوْ كَلِّمِ الأَرْضَ فَتُعَلِّمَكَ، وَيُحَدِّثَكَ سَمَكُ الْبَحْرِ.
مَنْ لاَ يَعْلَمُ مِنْ كُلِّ هؤُلاَءِ أَنَّ يَدَ الرَّبِّ صَنَعَتْ هذَا؟ الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ. ” (أيُّوب 12: 7-10)

إنَّ الإعْتِقاد بأنَّ جميع الأجْناس الحَيَّة على الأرْض لها نُفوس لَهُوَ مُكَوّنٌ آخَرٌ من الفَلْسَفة الدَّاهِشيَّة.

كيف لِلنَّاس أن تَقْرأ هذه السُّطور من الكتاب المُقَدَّس ويُعْلِنون أنَّ  البَشَر هم المجموعة الوحيدة  التي تَتَمَتَّع بِنَفْس.  ماذا عن قِصَّةِ النَّبي بَلعام والحِمار؟ (عَدد 22: 23-33)

باخْتِصار، إن الحمار الذي كان النَّبي بَلعام راكِباً عليه رأى ملاك الرَّب الذي كان على وشك أخْذ حياة بلعام لَكِنَّهُ تَمَّ تَجَنُّبَ ذلك ثلاث مَرَّات. وعِنْدَما صار مِن المُسْتَحيل تَجَنُّب ذلك لِفَتْرَةٍ أطوَل، وبعدما ضَرَب بَلعام الحِمار ثلاث مَرَّات، سُمِحَ للحِمار أن يَتَكَلَّم، فسأله، أي الحِمار، عن سَبب ضَرْبِهِ  ثلاث مَرَّات. ثُمَّ سُمِحَ لِبَلعام بِرُؤيَةِ المَلاك، فأوضَح ملاك الرَّب لَهُ أنَّ الحِمار قد أنْقَذَ حياته ثلاث مِرَّات، فإن لم يكن الحِمار قد تَتَدَخّل لَكان قَد مات. يتَحَدَّث القُرآن الكريم أيضاً عن حَياة الحيوان، في قِصَّة النَّبي سُليمان حينما كان في إحْدى رَحلاتهِ (سورة النَّمل 17-19). تَكتَشُف نملَةً اقْتِراب قافِلَةِ النَّبيّ سُليمان عليه السَّلام فَتُحَذّر النَّملات الأُخْرى بأن عليهم بالإخْتِباء وإلَّا سُحِقوا بالأقْدامِ دون عِلمهِ. فَهِمَ سُليمان ما قالتهُ النَّمْلَة، ابْتَسَم، وشَكَرَ الرَّب على بَرَكاتِهِ.

 

القُرآن الكريم يَحْتَوي آيات عديدة عن الحيوانات والأشكال الأُخْرى للحياة.

”  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ  ” (سورة النُّور 41)

 

” وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ” (سورَة الرَّحمن 6)

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ” ( سورةُ الواقِعَةِ 60- 61)

” قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ” (سورة المائدة 60)

“وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الذي فَطَركُم أَوَّل مَرَّة…” (سورة الإسراء 49-51)

 

في هذه المَرْحَلَة، حاول أن تتصَوَّر بِأنَّ  هذا النّظام هو نِظامٌ عالَمِيّ. ليس هو نِظام يَنْطَبِقُ على جميع أشْكال الحياة على الأرْض فَحَسْب، بِل هو نِظام يشمَل الكون بِأسْرِهِ بِملايين مَجَرَّاتِهِ وبِمِئات ملايين نجومِهِ التي في كُلّ مَجَرَّة.

الآن نفهم ما هو المَقْصود بِ ” في بيت أبي مَنازِلَ كثيرة…” ( يوحَنَّا 14: 2)  وَ بِ ” مَجْدُ الشَّمْسِ شَيْءٌ، وَمَجْدُ الْقَمَرِ آخَرُ، وَمَجْدُ النُّجُومِ آخَرُ. لأَنَّ نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ.” (1 كورنثوس 15: 41)

لا يُشْتَرَط أن يكون سُكَّان العوالِم الأُخْرى بِهيئة بشَرِيَّة أو من لَحْمٍ ودَمٍ. إنَّ كُلَّ عالَمٍ محكومٌ بقواعد مُعَيَّنة لا تنطَبِق إلَّا عَليه. قد تكون بعض العوالم، كالأرض، ماديَّة بِطَبيعتها، وقد تكون عوالم أُخْرى مادِيَّةً أكْثَر، وقد تكون عوالم غيرها أقَلَّ مادِيَّة. إن الإيمان بوجود أشكال حياتيَّة أُخْرى في الكون  لَهُوَ مُكَوّنٌ آخَر من الفَلْسَفَةِ الدَّاهِشيَّة.

 

لا ينبَغي لنا أن ننظُر إلى الموت باعْتِبارِهِ أمْراً سيّئاً ولكن كَبِداية جديدة. طالَما أن الإنسان يَعيشُ حياتَهُ/ا في اسْتِقامَة، فلا يوجَد شيء يَدْعو للقَلَق. إذا لم يكن الإنسان المُتَوَفّي قد سَعى بالبِرِّ، فليس بوسْعِنا سِوَى أن نَطْلُبَ لهُ الرَحْمَة الإلهيَّة لِأنَّ المُعاناة التي سَيَمُرُّ بها قد تكون في أقْصى حُدودها.

 

كَم هو عَدد المَرَّات التي شعَرْتَ فيها بأَنَّكَ وَلَجْتَ مَكاناَ ما على الرَّغْم من أنَّها كانت المَرَّة الأولى لكَ فيه؟ يُمْكِن أَن تَرى شَخْصاً لِأوَّلِ مَرَّة وتَشعُر كَأنَّك تَعْرفهُ منذ سَنوات، كما لو كان شقيقك أو شَقيقتكَ المَفْقودة، وتملأ البهجَة قَلْبكَ. قد تشْعُر اتجاه شخص آخر بغير مُبالاة؛ وأيضاً قد تَشْعُر نَحْوَ آخَر بالبُغض لا لِسَببٍ ما على الإطلاق- أو رُبَّما قد يكون هُناك سبب ما. قد يكون شُعورك ناتِجٌ عن مواجهةٍ لذلك الشَّخص، في تَقَمُّصٍ سابِق.

 

إنَّ إحْدى الجوانِب الهامَّةِ في التَّقَمُّص هي أنَّه لا أَحَد (باسْتِثناء الوحي الذي يُؤْتاهُ نبيّ من الله لإنجازِ هَدَفٍ مُحَدّد) يُمْكِنهُ أن يَعْرِف أي شيء عن حالَتِهِ التقَمُّصيَّةِ السَّابِقَةِ. لِذا فبِإمكاننا الإختيار بِحُرِيَّة بين الخير والشَّر، لا بِدافِع الخوف. هل يُمْكِنُكَ أن تتخيَّل كيف يُمْكِن أن تَعيش مع عِلْمِكَ أنَّكَ قد ارْتكَبْتَ عَمَلاً بَشِعاً في تَقَمُّصٍ سابِق؟ إذا تَكَرَّر مَعَكَ الموقِف نَفْسَهُ فهل سَتَتَجَنَّبَ ارْتِكابَ العَمَل لأنَّكَ ما زِلْتَ تَتَذَكَّر العِقاب الذي نَلْتَهُ، هل أنَّكَ سَتَمْتَنِع لأنَّ الخير الذي فيك انْتَصَرَ على الشَّر؟ إذا ادَّعى أي فَرْد مَعْرِفَةَ ما جاء في حياتِكَ أو حَيَواتِكَ السَّابِقة، فلا يَنبغي عليكَ تَصْديقَ هذه الإدِّعاءات إلَّا إذا كان لَديكَ أدِلَّةً دامِغة على أنَّهُ/أنَّها نبيّ مُرْسَلٌ من الله.

 

صورة جُزْئيَّة 5: آلِيَّةُ الحَياة

 

عِندَما تَتَحَدَّث الكُتُب المُقَدَّسة عن النَّفْس، هل في الواقِع تتحَدَّث عن كيان محْدود بِالكُلِيَّة، أَم أنَّ النَّفْسَ هي أَكثَر حَيَوِيَّة ونَشاطاً؟ وِفْقَاً للتَّقْليد، يُنْظَر لإلى الرُّوح على أنَّها كائن خالِد يَبْدَأ وجودها مع وِلادَةِ الطِّفْلِ، ثُمَّ تُحافِظ على هذا الوجود إلى جانِب جَسَد الإنسان حَتَّى الموت، ثُمَّ تَبْقى مُنْفَصِلَةً عن جِسْمِ الإنسان إلى الأبَد. أمَّا بِخصوص التَّقَمُّص، قد يكون وجود الرُّوح بَدأ قبْل أن تكون علاقة الزَّمان والمكان قَدْ بَدَأت أي (قبل حُدوث الإنْفِجار الكَبير The Big Bang) أي منذ 10-20 بليون سَنَة. وسوف تَسْتَمِر حَتَّى بعد زوال أي علاقة زمانيَّة مكانيَّة يُمكن أن توجَد، هذا إذا حَدَث ذلك حَقَّاً.

طالَما أنَّ التَّقَمُّص موجودٌ، سَتَظَلّ النَّفْس مُرْتَبِطَة بِنوع ما في الوجود أكانَ (إنْساناً أمْ حيواناً أمْ نَباتاً، أمْ جَماداً، أم أيّ كائن مِن عالَم آخر

 

كيف يُمْكننا تَحْديد ما هي النَّفْس وما هو مدى ارْتِباطِها بِالنُّفوس التي في الكون. قَبْلَ أن نُحاوِل إنْجازَ هذه المُهِمَّة، اسْمَحوا لي أنْ أَطْرَحَ بَعْضَ الأسْئِلَةِ البَسيطة: لِماذا توجَد قواعِد دينِيَّة تُحَظّر الإخْتِلاط الجِنْسِيّ، والعِلاقات الجِنْسيَّة بين افْراد العائلة الواحِدة وبين أفْراد الجِنْس نَفْسَهُ، والإتّصال الجِنسيّ مع الكائنات الأُخْرى؟ ماذا عَنِ القِمار؟ أو السُّكْر؟ فَمَعَ أنّ هذه الأُمور تجلِب المُتْعَة الجَسَديَّة لِبَعْضِ النَّاس، فَلِماذا نَهى الله تعالى عَنْ جميعِها؟ هل يحاوِل الله تعالى جَعْل حياتِنا أَكْثَر صُعوبَةٍ؟ أمْ أَنَّ هُناكَ سَبباً وَراءَ ذلك؟ إنَّ السَّبَبَ الرَّئيسيّ وراء هذه القوانين هو وجود سيَّالات روحيَّة.

إنَّ الإيمان بوجود السيَّالات الرُّوحيَّة باعْتبارِها جوهر الوجود لَهُوَ مُكَوّنٌ آخَرٌ من الفَلْسَفةِ الدَّاهِشيَّة

 

ما هي هذه السَّيَّالات الرُّوحِيَّة؟ هل هي مَرْئِيَّة أَمْ غير مَرْئِيَّة؟ هل يُمْكِن اكتِشافها؟ إذا كانت موجودة، فَلماذا، إذَن، لم يَتِمَّ ذِكْر أيّ شيء عَنْها في الكُتُب المُقَدَّسَةِ؟ في أَبْسَطِ وَصْفٍ، إنَّ السَّيَّالاتِ الرُّوحِيَّة هي امْتِداداتٌ للرُّوح في العوالم التي توجِد الحياة فيها والعوالم التي بِلا حياة أيضاً. إنَّها الرَّوابِط إلى الرَّوح الخالِدة التي تتحَدَّث عنها الكُتُبُ المُقَدَّسة. إنَّها الموجات التَّرَدُّدِيَّة التي تتجاوز حَدَّ القُدْرَة على كَشْفِها بِواسِطَةِ الأدَوات العِلْمِيَّة لَدينا. كما أنَّها لا تَخْضَع للقوانين الطَّبيعِيَّةِ للكون. تُدْعى (مجموعة) السيَّالات الرُّوحيَة المُعَيَّنة “بالنَّفْس”. تنقَسِم السَّيَّالات الرُّوحِيَّة إلى مجموعَتَين: تَتَفَرَّدُ المَجْموعَةُ الأُولَى مِنْها بانْتِمائها إلى (عالَمٍ مُعَيَّنٍ).

وبِخصوص حالةِ الأرْض، يَنْفَرِد الأمر فيها بِحيث أنَّ كل مجموعة (سَيَّالات) ،منها، تقوم بالتَّشكُّلِ (المادّيّ)، وهذا ينطَبِق على كُلّ كائن من الكائنات على حَدّ سَواء. ولِتَبْسيطِ الأمْر سَنُطْلِق على هذه المجموعة: مجموعة 1- السَّيَّالات الأرْضِيَّة

 

إنَّ مجموعة 1- السَّيَّالات الأرضيَّة هي المَسْؤولة عن إرْشاد الذَرَّات للإمْتِزاج بأشكال مُعَيَّنَةٍ لِتَكوين جُزَيئات عُضوِيَّةٍ وغيرَ عُضْوِيَّةٍ. تقوم السَّيَّالاتِ الرَّوحِيَّة بِإلإيعازِ إلى الجُزِيْئاتِ العُضوِيَّة لِتَكْوينِ الأحْماضِ الأمِينِيَّة. تقوم السَّيَّالات الرُّوحِيَّة أيضاً بإلإيعازِ إلى الأحْماضِ الأمِينِيَّةِ للإتّصال (ببعْضِها البَعْض) في سلاسِل طويلة لِتشكيل الببتيدات (Peptides)  التي بِدَوْرِها يتِمّ الإيعاز إلَيْها لِتَشْكيل سلاسِل لإنشاء البروتينات. يُوعَز إلى البروتينات للتَّفاعُل مع أُخْرى لِتَشْكيل جبلة (Protoplasm) التي هي السَّائل المُعَقَّد الموجود في الخَلايا. تُوعِزُ السيَّالات الرُّوحِيَّة إلى نوعين من الجُزَيئات لِتشكيل ما بِداخِل الخَلِيَّة ما يُسَمَّى بِ (الحِمْضُ النوَوِيُّ الرِّيبي) (RNAribonucleic acid) و الحمض النووي منقوص الأكسجين (deoxyribonucleic acid  DNA) الجُزَيْئات التي تَحْتَوي على كُلّ المَعْلومات اللازِمة لِتَكاثُرِ الخَلِيَّة.

 

تُوعِزُ السَّيَّالات الرُّوحِيَّة إلى الخَلايا المُخْتَلِفَة للإجْتِماعِ في نَمَطٍ مُعَيَّنٍ لِتَشْكيل الأعْضاء التي تُؤَلّف مَعاً كُلَّ نوعٍ من الكائنات. على سَبيلِ المِثال، حقيقة وجود مجموعة فَريدة (خاصَّة) من نوعِها من السيَّالات الرُّوحِيَّة التي تُشَكّل الإنسان، وأُخْرى لِتُشَكّل (صورة) الكَلْب، القِط، الغَزال، النَّمْلة، الشَّجَرة، والنَّبات. وبالإضافَةِ إلى كونِها مَسْؤولَةٌ عن تَشْكيل الكائنات، فإنَّ السيَّالات الرُّوحيَّة أيضاً مَسْؤولَةٌ عن تَحْديدِ نوع الجِنْس، لون البَشَرة، المَوْقِعِ الجُغْرافِيّ للكائن، وهذه من بين أُمور أخرى.

 

هُناكَ سَيَّالاتٌ رُوحِيَّةٌ مُشْتَرَكةٌ يتشاطرها أعْضاء كُلّ فَصيلَة على حِدى، وهُناك سَيَّالات روحيَّة تتشاطرها فَصيلة ما مع فَصيلَةٍ أُخْرى. على سَبيلِ المِثال، إنَّ مُعْظَم الأنواع الموجودة على هذا الكوكَب تولَدُ مع رغَباتٍ جِنسِيَّةٍ ومع الحاجَةٍ إلى العَيْشِ مع أعضاء آخرين في نَفْسِ الفَصيلَة. ومن ناحِيَةٍ أُخْرى، تُولَدُ بَعْض الأَنْواع مَعَ  غرائز مُعَيَّنَة (سَيَّالاتٍ رُوحِيَّةٍ) لِتُمَكّنهُم من البَقاء والبَحْث عن الغِذاء (الإصْطِياد). إلى الآن كُنَّا نَتَحَدَّثُ عن مجموعَة 1-السيَّالات الرُّوحِيَّة الأرْضِيَّة، التي هي النَّوع التي تَحْكُم وجودنا المادِيّ على الأرْضِ.

 

سَنَدْعو المَجْموعة الثَّانِيَة من السَّيَّالاتِ الرُّوحِيَّة، المجموعة 2 السَّيَّالاتِ الرُّوحِيَّة. هذه هي السَّيالات الكونِيَّة التي تُحَدّد (الشَخْصِيَّة المعْنَوِيَّة) لِكُلّ نَوع

إنَّها (الصِّفات) مِثلَ حُسْنِ السَّيْرِ والسُّلوكِ، الحُبّ، الإخْلاص، الرَّحْمَة، الثّقَة ، الإيمان، الوَلاء، الشَّجاعة، الصّدْق، والصّفات الحَسَنَةِ الأخْرى التي هي امْتِداداتٌ مِنْ عَوالِمَ عُلْوِيَّةٍ. في حين أنَّ الحَسَد، الأنانية، الكراهِية، الغيرة، الطَّمَع، الإيذاء، والصِّفاتِ المُهينَةِ الأُخْرى إنْ هِيَ إلَّا امْتِدادتٌ لِعوالِمَ سُفْلِيَّةٍ. وهَكَذا، فحِينما يَقومُ كُل فَرْدٍ بِتَعْزيز خِصالِهِ العُليا ، فسوفَ يَرْفَع سيَّالاتُهُ/ا إلى مُسْتَوى أعْلى، وإذا ما ما عَزّز الخِصال السُّفْلِيَّة، فسَيُسَفّل ذلك الإنسان سَيَّالاتهُ الرُّوحِيَّة إلى مُسْتوىً أدْنَى.

 

لِكُلّ فصيلة ما سيَّالٌ رئيس. هذا هو السَّيَّال الرُّوحِيّ المَسْؤول عن مَنْحِ الحياة. إذا غادَرَ السَّيَّال الرُّوحِيّ الرَّئيس إنساناً، فإنَّ الظَّاهِرة المَدْعُوَّة مَوْتاً سَتَأخُذُ مكانها، وستَبْدأ حياة أُخْرى في مَكان ما في الكون، وهذا يَتَوَقَّف على المُسْتَوى الرُّوحِيّ لِ (مجموعة 2 سيَّالات روحِيَّة) في اسْتِحْقاقِها بِناءً على أعْمالِها في تَقَمُّصاتٍ سابِقة. وَكَمِثالٍ على العلاقَةِ الرُّوحِيَّة، لِنَفْتَرِضَ أنَّ أحَد أفْراد فَصيلَةٍ ما كان مُشارِكاً في قَضيَّة نَبيلَةٍ. هذا العَمَل (النَّبيل) قد يُؤَدّي إلى تَجَسُّدِ أحَدِ سَيَّالات (مجموعة 2 سَيَّالات روحِيَّة)  في مكان ما في الكون، حيثُ تأخُذُ شَكلاً من أشْكال حياةٍ ما بعْد وفاةِ هذا الإنسان على الأرْض، أو حَتَّى في أثناء وجوده على قَيد الحياة. يَتِمُّ تَحْديد (نِظام) هذه الحَياة الجديدة من خلال (مجموعة 1-  عالَم 1 سَّيَّالات رُّوحِيَّة) الخاصَّة بِالعالَم عَيْنِهِ وبِ (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) التي (لِلنَّفْسِ أو الصِّفات الشَّخْصِيَّة) للشَّخْص. وكَمُكافَأة على الأعْمال النَّبيلة فإنَّ الأوضاع في الحياة الجديدة (المُقْبِلَة) أو حَتَّى إذا (تزامن وجودهُ على الأرض عند وصول السيَّال الذي تَرَقَّى إلى عالم أفْضَل) فَستكون الحياة هُناك أفْضَل من تلك التي على الأرْض. فمثلاً، قد لا يكون هُناك وجود للمَرَض أو المَجاعة في العالَم الجديد. قد يكون هذا العالَم بَعيداً عن الأرض بِآلافِ السَّنين أكان فِكْرِيَّاً أم عِلْمِيَّاً.

 

وبالمِثْل، إذا كان أحد أعْضاء فَصيلَةٍ ما قد شارِكَ في نَشاطٍ غير أخْلاقِي للغاية، فهذا سَيُؤَدّي إلى تَجَسُّدِ سيَّالات من (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) في في مكان آخر في الكَون حيث ستَّتّخِذُ شكلاً آخر من أشْكال حياةِ هذا الإنْسان الأرْضِيّ بعد وفاتِهِ، أو حَتَى في أثناءَ وجوده على قيد الحياة. مَرَّة أُخرى، هذه الحياة الجديدة تُحَدّدها (سَّيّالات مجموعة 1 – عالَم 2 )؛ أي الخاصَّة (بالعالَم الثَّاني) وبِ ( مجموعة 2 سَيَّالات روحيَّة) الخاصَّة (بالنَّفْس المعنوِيَة)؛الإنسان ذاته. وكَعِقابٍ للعَمَل غير الأخْلاقِيّ، فستكون ظروف الحياة الجَديدة للحياة المُقْبِلَة أو المُتَزامِنَة مع وجود ذلك الإنسان على الأرْض أكثر سوءاً من تِلْك التي على الأرْض. فَعَلى سبيل المِثال ، قَد تكون الأمْراض والكوارِث الطَّبيعِيَّة مُنْتَشِرة. إنَّ هكذا عالَم قد يكون آلافاً من السّنين وراء المُسْتوى الفِكْرِي والعِلْمِي لأهل الأرْض.

 

هناك 150 درجة من العوالِم السُّفْلِيَّة و150 دَرَجة من العَوالِم العُلْوِيَّة. يَتِمُّ تَعْرِيف مُسْتَوى 150 السُّفْلِيّ بِأقصى الجحيم، بَيْنَما يُعَرّف المُسْتَوى ال 150 العُلْوِيّ بِ أقْصَى النَّعيم. للأسَف فإنَّ الكُتُب المُقَدّس تُشير فقط إلى النَّعيم والجحيم دون أن تَذْكُر أي شيء بينهُما. يَتَمَيَّز العالَمَيْن السُّفْلِيّ والعُلْوِيّ بوجود مادِّي. إنَّهُ وراء هذا الوجود المادّي توجَد 150درجة للعالَم الرُّوحِيّ. نحنُ لا نَعْرِف الكثير عن هذا العالَم الرُّوحِيّ-إنَّهُ عالَم الله، وهو مَنْشأ يسوع المسيح وجميع الأنبياء الآخَرين، ومنزِلُ جميع الأرْواح.

 

إنَّ كُلَّ سَيَّالٍ روحِيّ لِروحٍ مُعَيَّنة يَرْبِط هذه الرُّوح بِعالَمٍ مادِيّ؛ إمَّا عالم سُفْلِي (ع س) أو عالَمٌ عُلْوِيّ (ع ع) . إنَّ وجود (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) في أَيّ عالَمٍ كان، يَعْني حُكْماً أنَّ حياةً ما يجب أن تبدأ. وكمِثالٍ بَسيط جِدَّاً، فإنَّ النَفْس 1 يتزامَن وجودها في (ع ع1) ، (ع ع 3 )، (ع س 1 )، (ع س 2 )، و (ع س 4) في حِينِ أنَّ النَّفْس 2 يتزامَن وجودها في  (ع ع 2 )، (ع س 1) ، (ع س 3)، و (ع س 150) . إنَّهُ من من غير الواضِح مَعْرِفة كم هو ،العدد، المسموح به  لِوجود النُّفوس المتَزامِنة في العوالم لِكُلّ روح. قد يكون اتِّساعَ الكون قد أوجِدَ لِمَنْع تَدَخُّلِ أي كائن ما من العوالم السُّفْلِيَّة في شُؤون الكائنات الموجودة في العَوالِم العُلْوِيَّة. لكن العَكْس ليس بالضَّرورة أن يكون صَحيحاً. إنَّ كائنات العوالم العُلوِيَّة هي أكْثَر تَقَدُّماً عِلْمِيَّاً ورُوحِيَّاً، من تلك التي للعالَمِ السُّفْلِيّ. ولكن بِما أنَّ وجودها مادِيٌّ بِطَبيعَتِهِ، فهِيَ مُقَيَّدة بِسُرْعَةِ الضَّوء كأعْلَى سُرْعة يمكن السَّفَر من خِلالها، هذا ما لَم يَكُن قد حَدَثَ تَدَخُّل رُوحِيّ ضَرورِيّ لإنْجازِ هَدَفٍ مُعَيَّن.

fluids

الرَّسْم التَّوضيحيّ 4

مِثال مُبَسَّط عن وجود النُّفْوس المُتَزامن وجودها في العوالِم العُلوِيَّة والسُّفلِيَّة

كما أنَّ الأنبِياء عليها السَّلام تأتي إلى الأرْضِ في مُهِمَّةٍ، كذلك يُرْسَلون إلى عوالِمَ أُخْرى من أجْلِ الهِدايَةِ. كل مُسْتوى يَحْتَوي على ملايين إن لم يَكُن مليارات من العوالِم. وبِعِبارَةٍ أُخْرى قد يكون هُناك مليارات من العوالِم التي هي بِنَفْسِ المستوى الرُّوحِيّ للأرْض. تحْتَل الأرض المسْتوى الأوَّل من الدَّركات السُّفْلِيَّة. إنَّهُ بِمُجَرَّد أن يَتَمَكَّن سَيَّال رُوحِي من تَطهير نَفْسَهُ من المُيول السُّفلِيَّة مِنْ خِلال آلاف بل بلايين من الدَّورات التَّقُمُّصِيَّة عبر الكون، يُمْكِن لهُ إذ ذاك الإنْتِقال إلى الدَّرجات العلوِيَّة المُمْكنَة فَبُلوغ مَرْحَلَةِ الكمال وولوج العالَم الرُّوحِيّ؛ أي أنَّها لن يكون لديها ما يربطها بالعوالِم المادِيَّة إلى الأبَد. طالَما أنَّهُ يوجد سَيَّال واحِد يربِط الرُّوح بِ (مجموعة 2 سيَّالات روحِيَّة) عُلويَّا كان أم سُفْلِيَّاً في أيّ مكان في الكون، فإنَّ التَّقَمُّص لا بُدّ جاري. أمَّا عن كيفيَّة اتّصال الأرواح بعضها ببعض في المَلأ الرُّوحِي فهو أمر غير مَعْلومٍ لَدينا. كُلَّما ارْتَقَتْ سيَّالات (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) المُتَّصِلَة  بالرُّوح، فستعْلو رُتْبة تلك الرُّوح في عالم الأرواح، وبالمِثْل، كُلَّما تدنَّتْ درجة (مجموعة 2 سيَّالات رُوحِيَّة) المُتَّصِلة بالرُّوح فسَتَنْخَفِض رُتْبَة تلك الرُّوح في المَلَأِ الرُّوحِيّ.

 

إن (مجموعة 2 سيَّالات رُوحِيَّة) يمكن أن تتبادَل مع بعضها البعض عندما يتفاعل شخص ما مع غِيره. ولِهذا السَّبب تَحْديداً، فإنّ تَعْريض النَّفس مع جماعات السُّوء سيأتي بِتأثير سَلبِيّ علينا، بينما تَعْريض النَّفس لِجماعات البِرِّ سيأتي بِتأثير إيجابِيّ عَلينا. وبِعِبارَةٍ أُخْرى، ” التُّفَّاحات السّيِّئة تُفْسِدُ التُّفَّاحات الجَيّدة.” إن (تأثير) تبادُل السيَّالات الروحِيَّة يَحْصُل بوضوح أكثَر في حالَةِ العِلاقاتِ الجِنْسِيَّة.

 

عندما يقوم رَجُل وامرأة بِجُماعٍ جِنْسِيّ، فإنَّهُما يَتَّفِقان على دَمْجِ بعض من سَيَّالاتِهما الرُّوحِيَّة (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) مع بَعْضِها البَعْض؛ (دَمج الميول والرغبات)  إنَّهُ لِهذا السَّبب تحْديداً يُنْهى عن الإتّصال الجِنْسِيّ غير المَشْروع في مُعْظَمِ الأديان، حَتَّى وإن لم توَضِّح الأديان التَّقليدِيَّة ذلك. إنَّ لِإندماجٍ كَاندِماج (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة)، لا سيما عندما تَتَعَدَّد الإتّصالات غير الشّرْعِيَّة، عواقِب كارِثِيَّة. فقد يُؤَدّي ذلك الأمر إلى أن تكون سَيَّالات الأفراد مُتَّصِلَة بعضها ببعض لِتَقَمُّصاتٍ عَديدة مُقْبِلة، الأمر الذي يؤدّي إلى إعاقة تَقَدُّمِهِم نحو العوالِمِ العُلْوِيَّة. في مَرْحَلة ما من الوقت قد يكون لهم دور زوجٍ وزوجَة؛ وفي حياة أُخْرى أُبٌ وإبنة، أب وإبن، أُم وإبن، أُمُّ وإبْنَة، أخٍ وأَخيهِ، أخ وأُخْتهِ ، أو ايَّة علاقَةٍ اُخْرى.

 

وإذا لم يَتِمَّ العَمَل على الإبتعاد عن ذلك (التَّصَنُّع الجنسيّ) فإنَّ عاقِبة اندِماج (مجموعة 2 سَيَّالات روحِيَّة) هي ولادة طِفْلٍ يكون امْتِداداً للشَّخْصَينِ مَعاً. تُوَفّر (مجموعة 1 سَيَّالات أرْضِيَّة) الهنْدَسَة المَطْلوبة للخَلِيَّة والعضو، وهذا يَتَوَقَّف على البِناء (الصِّفات الجيِنِيّة “الجسدية” للرَجُلِ والمَرأة). قد يَحْمَل الطّفْل أيّ مَرَض جَسَدِيٍّ موجود عند والِديهِ، وعلى سَبيل المِثال، إذا كان أحَدُ الوالِدين يُعانِي من السُّكَّرِي، فستَكون هناك فَرصة جَيّدة لكي يُصاب الطّفْل بالسُّكَّرِي بعد بعضِ الوَقْت. وبالإضافة إلى هذا فإنَّ سَيَّالات المجموعة 1 التي لَدى الوالِدين قد لا تكون مُتوافِقة مع بعضها البعض الأمر الذي قد يأتي بِطِفْلٍ مُتَخَلّفٍ أو مُشَوَّه. تَحْدُثُ حالة كهذه عندما يكون الوالدين والإبن مُسْتَحِقَيْن أن يكونان في هذا الوضع لأسباب مُتَعَلّقة بِالعَدالة الرُّوحِيَّة. إن (مجموعة 2 سَيَّالات رُوحِيَّة) تُحَدّد سِمات الطّفل (النفسية؛ الميول والرغبات والنزعات). ولِأنَّ سَيَّالات المجموعة 2 قد انْدَمَجَت لِتُكَوّن الطّفْل، فإنَّ الطّفل سيحمِل بعض الصّفات (السّيَّالات الرُّوحِيَّة) التي للوالِدين. وعلى سَبيل المِثال،  قد يَصِل الجَشَع والولاء إلى الطّفْل من الأب، ثُمَّ الحَسَد والغيرة من الأم، والعَكس صحيح، وقد يَحْدُث أي مَزيج آخَر. أما سَمِعْت بِالمَثَل الشَّائع القائل: ”  الأمر يَسْرِي في العائلة؟” وبطَبيعَةِ الحال، فإنَّ الأُمور هي أكثَر تَعْقيداً من هذه النَّظرة التَّبْسيطيَّة العامَّة. لأن الطَّفل يُظهِر سيَّالات المجموعة 2 مِنْ نَفْسَين، كما أنَّهُ يُعَزّز الصّفات العُلْيا، فإنَّ الطّفْل يُرَقّي سَيَّالات المجموعة 2  لِكِلا النَّفسَين. وبِالمِثل فإنْ عَزّز الطّفْل الصّفات السُّفْلِيَّة، فإنَّ الطّفْل سَيُسَفِّل سيَّالات المجموعة 2 الرُّوحِيَّة لِكِلا النَّفْسَيْن. من وجهةِ النَّظَرِ هذه، فإنّهُ على المُتَزَوّجين التَّفْكير في هذهِ المَسْألَةِ مَلِيَّاً قَبْل أن يُقَرّروا إنجاب طِفْلٍ إلى هذا العالَم. كُلَّما زادت الرَّوابِط (الأطفال) لِسَيَّالاتنا الرُّوحِيَّة، كُلَّما زادت خُطورَة تدهور سيَالات المجموعة 2 الرُّوحِيَّة.

 

في حالَةِ الزَّواج بين افْراد الأُسْرة، كما هي الحال مع أَخ وأُخْت، فإنَّ سيَّالات مجموعة 2 الرُّوحِيَّة لهما هي امْتِداد للنَّفْسَيْن. (مجموعة 1 – سيالات روحِيَّة أرْضِيَّة) تَكْشِف مِثل هكذا عِلاقة، فتكون النَّتيجة طِفْل مُشَوَّه خُلُقِيَّاً. وبِعِبارَةٍ أُخْرى، ولِسَبب غير مَعْلومٍ لَدينا، فإنَّ دَمْجَ سيَّالات المجموعة 2 الرُّوحِيَّة لِجيلٍ ثانٍ لأيّ نَفْسَيْنِ (مُتَماثِلَتيْن تماماً) هو مَمْنوع. هذا الأمر مُنْعَكِس بِشَكْلٍ واضِحٍ في جميع الأدْيانِ الرَّئيسيَّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفَصْلُ الأوَّل (أن تكون أو لا تَكون)

المُقَدِّمة

بقَلَم يوسف ق. سلامة

يُطْلِعنا الأخ العزيز مُنير مراد على أَحدَ أعظَم أبْدع وأَروعِ ما خَطَّهُ قَلم عن تعالِيم الرَّسالة الدَّاهِشِيَّة.

كتب فيه من الخِبْرَة الرُّوحِيَّة والبَشَرِيَّة ما يُغْني عن كتب كثيرة. فيهِ الحِكمة والتَّجْرِبة والغَوص في أهم ما جاءَت بهِ الرَّسالة السَّماوِيَّة.

وَبِحَسَبِ هذه التَّعاليم المُبارَكة نراه يَعْرِض لنا تكوين الخَليقة بِحَسَب ما جاء في كُتُبِ الأديان السَّماوِيَّة، مُعَزِّزاً إيَّاها بلوحات أحد أعْظَم فَنَّانِيّ القَرْن التَّاسِع عَشَر هو الفنان الكبير توماس كول (Thomas Cole) (1801- 1848 ) حيث يأخذنا خطوة خطوة عبر مراحِل الحياة من الطُّفولة إلى الشَّيخوخة، ثُمّ يَشْفعها بِصُوَرٍ كأنَّها من إلهام ، مُجَسِّدة هذه المراحِل حتَّى أنها تَجعل المُطَّلِع عليها يعيشها ويلمس اخْتِبارها لَمْس اليَد.

نَجِد أيضاً أن الدكتور داهِش نَفْسَه كان مُشيداً بِما رَسَمهُ هذا الفَنَّان العظيم من مَعانٍ يَشهد لها فنَّانو العالم بِأسْرِهِم.

 

يَبْدأ الأخ مُنير مراد بِسَرْد روحِيّ عِلْمِي عن نُشوء الكون، ثُم يُقْرِئنا أهم اخْتِباراته الحياتِيَّة حَتَّى يَصِل بِنا في رِحْلَتِهِ العَظيمة إلى أهم المواضيع التي يَسْعى وراءها كُل عالم وكل ساعٍ في إثْر العلوم الرُّوحِيَّة التي هي أساس كل عِلْم بَشَرِيّ، ألا وهي السَّيَّالات الرُّوحِيَّة.

 

نراه يُفَصِّلُ بِدِقَّةِ الخبير السيَّالات الرُّوحِيَّة لِتأتي في قِسْمَيْن أو مَجْموعَتَيْن، وما ذلك إلَّا ليأخذنا خطوة خطوة إلى ذلك العالَم العَظيم.

عالَم المَحبَّة والأخوة والسَّلام الذي تدعو إليه الدّيانات السَّماوِيَّة قاطِبة؛ فَلا سَبيل لِبلوغ درجات الفردوس العُلْوِيَّة إلا بالمَحِبَّة والعَمل والإسْتِشهاد في سبيلِها إذا اقْتَضى الأمر. فالحياة لا تأتي إلَّا بالعَمل المُثابر بتَطبيق كُل وصايا الله تعالى.

أخي القارِئ العَزيز، لا يمكن سَبْر غور عالَم الرُّوح ما لم يكن الإنسان مُهَيَّئاً لذلك، لكن بِرَغْمِ ذلك، عِلَيْهِ أنْ يَسْعى وَيَجِدَّ في طَلَبِ ذلك، ورِحْلَة الألف ميل تَبْدأ بِخطوة واِحِدة. إذن عَلينا التَّمعن جَيِدَّاً فيما نقْرأه ثُم سؤال من هم على درايةٍ بهذه الأمور.

 

ودون شَك، سيكون هذه الكتاب مَرْجعاً أساسيَّاً في الرِّسالة الدَّاهِشيَّة يرْجِع إليه كل من تتوق نَفْسهُ لِدخول هذا العالَم الجَديد.

 

والله المُوَفِق.

 

أن تكون أو لا تَكون

 

كانت مجموعة من النَّاس تُسافِر جوَّاً من مدينة إلى أخرى، وعند اقترابهم من وجهتهم، طرأ خَلَلٌ على عجلات الهبوط فَحالَ دون نزولها. وبعد محاولات عديدة لِتَشْغيلها أَعْلَن الطَّيَّار للرُّكَّاب بأنهُ سيقوم بِمحاولة الهبوط الإضطراري، ثُمَّ أعْلن للركاب ضرورة الجلوس بِوضْعِيَّة (الحماية من الإصطِدام). إنَّ علامات العَجْز والتَّوَتُّر بادية على جميع الرُّكَّاب. فلا يمكن لأحَدٍ أن يَلومهُم، إذ في لَحظات سيكونون على موعد لِمواجهة مع”الموت” غيرَ المُقَدَّرٍ و السابِقٍ لأوانِهِ. أجهش بعضهم في البُكاء ضارِعين إلى الرَّب، إلى الله تعالى، يسوع المسيح، بوذا، العذراء مريَم، القِديسين، وغيرهم من أجل هبوطٍ آمِن. لِمَ لا، فإذا نجوا، ستكون صَلَواتهُم قد أَجْدَتْ نَفْعاً، لكن إن لَم تُجْدِ نَفْعاً فسيكونون على استعْدادٍ للإلقاء “بِصانِعِهِم.”

لِأولئك الرّكاب المُلْحِدين، لحظة العَدَم قد حانت. إلا أن فِكراً خاْطِفاً يومِض في أذهانِهِم: “ماذا لو كان الله موجوداً؟” ماذا لو كُنْتُ مُخْطِئاً؟ ماذا سيكون مَصيري؟

وتأخُذ مكان هذه الفِكرة فكرة خاطِفة اُخْرى: ” لا، أَوقِفْ هذا الهُرَّاء، إن المَدْرَج مُجَهّزٌ الآن من أجْلِ حالة التَّحَطُّم، وأنَّ الطيَّار يحاوِلُ الهبوط.

وبعد بِضعة ارتطامات قاسية، واهْتِزازات، وأصوات مُدَويَّة، تتوَقَّف الطَّائرة، ويتِمَّ فتح أبواب الطَّوارئ، وإذا بكُلّ الرُّكَّاب بِخير. وفي تلك اللحظة تَظهَر ابتِسامات واهية على كُلّ وَجه- مازالوا مصدومين بهكذا اخْتِبار. ينظر بعض الرُّكاب لآخرين قائلين: “حمداً لله إنَّنا أحياء”.

لماذا نتمَسَّك بالحياة بِقوَّة مقاومين خسارتها ؟ هل هو الخوف من المجهول؟ لِماذا لا نُفَكّر يوميَّاً بما يُمْكِن أن يحْدُث لنا بعد موتنا؟ هل علينا الخَوض في سيناريو شَبيه بذلك المُدَوَّن أعْلاه قبل أن نبدأ بالتَّفكير حَولَ الأمر؟ إن أولئك الذين يَفَكّرون ويتَحَدَّثون مِنَّا عن هذا الموضوع، يقوم آخرون بانتِقادِهِم على أنَّهُم ذَوو وِجْهة نَظَر سَلْبيَّة، وبأنَّهُم مَهْووسُون أو مُكْتَئبون أو أنَّهُم يُعانون مِنْ أَمْراضٍ نَفْسِيَّة. والآن وإذْ نحنُ على وَشَك الدُّخولِ في القَرن الواحِد والعِشْرين، هل ما زالت المُعِدَّات والأشياء الماديَّة التي جاءت بالتَّطوَّرِ العِلمِيّ تتمَلَّكنا بحيث نَسينا الأمْر الرُّوحِيّ؟ كم مِنَّا يُعْمِل التَّفكير في حياتنا اليوميَّة؟ كيف نُحَدّد الحياة؟ هَل نحنُ موجودون حَقَّاً؟ هل كل ما نَراهُ في الحياة حَقيقيّ؟ ينبغي على الجنس البشريّ معالجة هذه والعديد من الأسْئلَة الأُخْرى على نحوٍ مُنْتَظَم.

ما هو الواقِع؟ هل يوجد شيء كواقِعٍ مُطْلَق؟ أم أنَّها أيضاً مُجَرَّد وجْهَة نظر؟ ليس الغَرَض من هذا الكتاب دراسة النَّظريات التاريخيَّة للواقِع والحاضِر، لكن من الأهَميَّة بِمكان أن يَتِمَّ ذِكْرها باخْتِصار، عَلّ القارِئ المهْتَمّ يُجْري عليها بَحْثاً في وقت لاحِق.

إنَّ دِراسَةِ الوجود ينتمي إلى فَرْعٍ من الميتافيزيقيا يُدْعى الأنطولوجيا. هناك ثلاث نظرِيَّات فَلْسَفِيَّة عن الواقِع: الوحْدَويَّة، وَالثُّنائيَّة، والتَعَدُدِيَّة. إن الوحْدَويَّة” المُشْتَقَّة من الكلمة اليونانيَّة “أُحاديّ” تقول باخْتزال العالَم في حَقيقة واحِدة. تنقسِم  ” الوحْدويَّة” إلى ثلاث مدارِس في الفِكر” الماديَّة والمثاليَّة والحيادِيَّة. تَنُصُّ الماديَّة بأنَّ الحقيقة الوحيدة في الحياة هي التي “للمادَّة” وبأنَّهُ يمكن خَفْض كل ما في الوجود إلى عناصِر ماديَّة.

تنُصُّ “المثاليَّة” بأنَّ العَقْل هو الحقيقة الوحيدة وأنَّ كُلّ ما في الوجود هو “تَصَوُّر” (أي أنَّ الكون غير موجود خارِج حدود ما يَتَخيَّلهُ العَقْل).

تَنُصُّ “الحياديَّة” بأنَّ الواقِع هو أمْرٌ آخَر- إنَّ كِلا العَقْل والمادَّة هُما مَظاهِرٌ لها.

تَنُصُّ الثُّنائيَّة على وجود حقيقَتين اثنتين، العقل والمادَّة؛ أيْ أن حقيقة المادَّة مُنْجَليَّةٌ بالعالَم الآليّ (الميكانيكي)، وأن العقل منجَلٍ في “النَّفْس”- غير الماديّة والخالِدة.

وتَنُصُّ التَّعَدُّدِيَّة بِأنَّه لا يُمْكِن ببساطَة تخفيض الحقيقة إلى العقل أو إلى المادَّة، أو إلى العقل والمادَّة (مَعاً) بل أنَّها مُنْجَليَّة في عديد من المظاهِر المُخْتَلِفة، ومن بينها العقل والمادَّة وهاتان اثنتان منهُما فقط.

والآن اسْمَح لي أن أسألكَ التَّأمُّلِ في الحياة لِبَعْضِ الوقت، ثٌمَّ اسمَحْ لي أن أطْرَحَ عليك  السُّؤال التَّالي: هل أنت موجود؟ من المُرَجَّح أن تُجيب: “يا لهُ من سُؤالٍ سَخيف. بالطَّبع أنا موجود. أستطيع أن أراك وتسْتَطيع أن تَراني. إذا أنا قَرَصْتُ نفسي سأشْعُر بألَمٍ، وإذا جَرَحْتُ نَفْسي سَأنْزِف. إذا طَعَنْتُ نفسي سَأُقْتَلْ. وبجانِب الألم، يُمْكِنني أن أشْعُر بالحُب، يمكنني السّباحة، الضَّحِك، الغِناء، تَسَلُّق الجَبَل، قيادة السَّيَّارَة، الذَّهاب إلى الكُليَّة، أن أصيب شَخْص ما، أن أتَزَوَّج، والجِنس، والإنخِراط في حوارٍ فِكْرِيّ. إذَن أنا موجود”. قد يكون هذا الجواب مَنْطِقيَّاً، وأَنَّك على أتَمّ صَواب، لكن ما كُنْتَ قد بَدأتَهُ كَدَليلٍ على صِحَّةِ وجودك قد لا يكون جواباً فيه الإمتياز.

اسمح لي أن اُوَضّح هذه المسألة: في بعض الأحيان قد تواجه الألم والحُبّ؛ تَرى الأشياء، والأشخاص، والأماكِن؛ أنت تمشي، تُفَكّر، تَلْعَب، تَصْرُخ، تضحك، تُغَنّي، تصعد جبلاً، تَسْبَح، تذهب إلى الكُليَّة، تُصيب شخصاً ما، تتزَوَّج، الجِنْس، تقود سيارة، طائرة، أو تقودُ قارِباً، تُشارِك في مناقشات فِكريَّة. أنت “موجود” ولا أحد يمكنهُ إقناعك بِخلاف ذلك، ولكن وعلى حينِ غُرَّةٍ يُقْرَع جرس المُنَبّه، تُمدّ يدك لإيقافه، والآن أنت مُسْتَيْقِظ، الآن أنت مستيقِظٌ حَقَّاً. عفواً! اعتَقَدْتُ أنك كُنْتَ موجوداً، في الوقت الذي واجهت فيه الأمور  المَذْكورة سابِقاً. من الواضِحِ أنَّهُ مُجَرَّدَ حُلْمٍ كان في الحَقيقة امْتِداداً لوجودِكَ الحاليّ! حسناً، أسَلّم بأنَّهُ كان مُجَرَّدُ حُلْمٍ، وأنَّكَ عُدْتَ إلى “واقِعِ الحَياة”، لكن ماذا لو كان هُناكَ ساعة مُنَبّهٍ على وشكِ أن تنفَجِر وأن توقِظكَ إلى “الوجود الحَقيقيّ”. هل وصَلَتْكَ الآن؟ ما يُنْظَر إليه على أنَّه حقيقة قد لا يكون حقيقيَّاً على الإطلاق.الحُلْمُ الذي ذَكَرْناهُ لِلتَّو هو حقيقيٌّ لَكَ فَقَط ويُشَكّلُ جُزْءاً من واقِعِكَ. وبالرَّغم من ظهور هذا الواقِع مختلفاً من شخص لآخر إلا أنه توجد حقيقة تشمل الكون بأسْرِه، وهذا هو الواقِع الذي يهمنّا. إنَّ حياتنا كُلها أشْبَهُ بِحُلْم حيث ينتظر كل واحد منا منبّهاً ما كيما ينفَجِر، لكي يستيقِظ، ليُحْضِرنا وجهاً لِوجْهٍ مع حقيقة وجودنا.

وقد ناقَشَ الدكتور داهِش هذا الأمر مَرَّةً بِقولهِ: “إن الناس نيامٌ، وأَنَّهُم في لحظة موتهم يسْتَفيقون.”

أهلاً وسَهلاً بالعالَمِ المُتَعَدّد الحقائق. والآن اسمحوا لي أن أسْألكم نفس السُّؤال: هل أنت موجود؟ كيف سَتُجيب على هذا السُّؤال؟ هل سُتجيب بنفس الطريقة السَّابِقة عينها؟ هل ستحاول إيجاد طريقة أُخرى لإثبات حقيقة وجودك؟ أم هل سبَّبْتُ لك حيْرَةً لكي تقول: “لستُ متأكّداً ما إذا أنا موجود أم لا”.

إذا كان الوجود النّسْبِيّ لكل واحِدٍ مِنَّا ليس سِوى حُلماً مُنْتَمٍ إلى وجود آخَر ذي واقِعٍ مُخْتَلِفٍ، فكيف لَنا أن نَعْرِف بأن الوجود في ذلك العالَم المُخْتَلِف هو الوجود الحَقيقيّ وأنَّهُ، بِدورهِ، ليس حُلْماً ينتمي إلى واقِعٍ آخَر ؟

الآن رُبَّما تعْتِقد بأنني مجنون، وبأنني فَقَدْتُ السَّيْطَرة على قواي العَقْلِيَّة، وبأنّني أنتمي إلى مَصَحّ عَقليّ. الأمر الذي يستدعي سؤالاً آخر: من هو العاقِل؟ هل هو كُلُّ من يكون خارِج المَصَحّ العَقْلِيّ؟ أم هو كُلُّ من يكون في داخِلِهِ؟ إنَّهُ سؤالٌ نِسْبِيّ. إنَّ كُلّ من هو بداخِل المَصَحّ العَقْلِيّ يظن أنَّه بصِحة سليمة وعاقِل وبأنَّ كل الآخرين على خِلاف ذلك، في حين أننا نرى أنفسنا عاديين وعاقِلين وأنهم في نظرنا مجانين.

 

من هوعلى حَق؟ دعونا لا ننسى ما علَّمنا إياه التاريخ عن قضيَّة غاليليو غاليليي (1564-1642) في مُجادَلَتِهِ أنَّه ينبغي أخْذ العِلم والدّين على أَّنَّهُما حقيقتان لا يُناقِض أحدهما الآخر. عندما قال أنه يؤيّد وجهة النَّظَر القائلة بأنَّ الشمس مسْتَقِرَّة وبأن الأرض والكواكب الأخْرى تدور حولها، تم اعتباره من قبل الكنيسة أنه منافِقٌ ومجنون. تمَّ اعْتقالهُ مدى الحياة ثُمَّ أُجْبِرَ على التَّخَلّي عن مُعْتَقَدِهِ.

 

ويَبْقى السُّؤال: هل الحياة التي نعرِفها هي (الحقيقة المُطْلَقة)؟  قبلَ أن تجيب على هذا السُّؤال، إسْمْحْ لي من فضلك أن أعْرِضَ هذا السّيناريو: إذا عُدنا في الوقت إلى ساعات قليلة قبل نزول “كريستوفر كولومبُس” في ال” وست إنديز”، فبالنّسْبة إلى السُّكان الأصليين، كل ما رأوه أمامهم هو عالمهم وواقعهم. فلا احتمالٍ إلى وجود ما خَلْفَ المياه. المياه لا محدودة، والأرض مُسَطَّحة. إذا بقوا معزولين، فسيستغرق الأمر منهم مئات بل آلاف السَّنوات ليُقَرروا أن الأرض غير مُسَطَّحة، ولِيَتَمَكَّنوا من بِناء مركب شِراعيّ قويّ يسمح لهم بالمجازَفة وَ سَبْرَ غور المجهول في المياه التي (يَفْتَرِضون) أنْ تكون بلا نهاية. وطالَما أنَّ حقيقتهُم لا تتشابِك مع الآخرين فسَيظَلُّون مُقْتَنِعينَ بأنَّه لا وجود لأيَّة حقيقة أُخرى. فعندما تشابكت حقيقتهم مع حقيقة الأروبيين عند نزول “كولومبوس” اختَبَروا انتكاسة كبيرة لِما كانوا يَعْتَقِدونه. فباتوا (في تلك اللحظة) في حالة من الإرتباك. أن كُلَّ ما كانوا يعتقدون به عن الوجود قد ذهَبَ هباءً. وعلى النَّحو نفسه، قد نكون عائشين في واقِع قد يذهب هباءً إذا ما اصطدم بِواقِعٍ آخر. لكن ماذا يمكن أن تكون هذه الحقيقة؟ إن الحقيقة التي أتَحَدَّثُ عنها هي الحقيقة المُطْلَقة لا أيَّة حقيقة نِسبيَّة اُخْرى. إنَّها صَعْبَة الفهم وبعيدة عَمَّا يُمْكِن أن نَتَصَوَّرهُ. إن واقعنا مُماثل لقِصَّة خرافيَّة تُقال لِطِفل في الثَّالِثة من عُمْرِهِ. يستوعِب الطّفل أو الطّفلة القِصَّة الخُرافية ويقبلها في عقله/ا على أنَّها حقيقة، ولا يُمكن أحد إقناعه/ا بغير ذلك. قد يَحْتَجّ البعض قائلين: “هل نحن جَهَلَة إلى هذا الحَدّ حَتَّى أنَّنا غير قادِرين على التَّمييز بين ما هو حقيقي وما هو خِلاف ذلك؟ إن في قولك هذا إهانة لِذكائنا”. أقول لهؤلاء النَّاس، انظروا إلى الأمر كيفما شِئتم، أكان في شكلهِ أَمْ في هيئتهِ، ولكن من وجهة نظري نحن في مستوى رياض الأطفال عندما يتعَلَّق الأمر بِفهم الحقيقة المُطْلَقَة. إن ما نُعايِنُهُ لَهُوَ نُسْخة ضَيّقة ومُمَوَّهة عن الحقيقية المُطلَقَة. عندما يَسأل الطّفل كيف تولَد الأطفال، يقوم أولياء الأمور، بِصَبرٍ، بإخبارِهِ عن قِصَّة الطُّيور والنَّحْل.

نحن لدينا نُسْخة الطيور والنَّحل عن “الحقيقة”.

فكيف نَقْتَرِب إذن من فهم “الحقيقة المطلَقة” ؟ هل يُمْكِننا تَلَمُّسها مِن خلال العِلم؟ لا يمكن للعِلم إلا تفسير الواقِع الفِعْليّ (المادّي) للحياة، وهو ليس بمكان لِسَبْر غور عالَمِ الحَقيقة الرُّوحيَّة.

هل ينبغي أن نقضي ردْحاً طويلاً من عمرنا في التأمُّل على أمَلِ سُطوعِ شيئاً من النُّور ليُبَيّن لنا الطَّريق؟ أو أن شيئاً ما سَيُصيبنا على رأسِنا ويجعلنا نقول: ” وَجَدْتُها”. ماذا عن الدّين؟ أليس من المنطقي الإقتراب من الحقيقة المُطلقة من خلال دراسة مُفَصَّلَة في الكُتُب المُقَدَّسة؟ أعْتَقِدُ ذلك، لكن إلى حَدّ ما فقط، لأن الرَّسائل في الكتب المُقَدَّسة، في بعض الحالات، تَبْسيطِيَّة للغاية، وهي مَعْنيَّة بمن عاشوا قبل 1.4 ألف من السّنين. وفي حالات أُخرى، نجد أن هناك غموضاً في الكتب المُقَدَّسة، كما أن بعض المقاطِع لا تَعْني شيئاً بالنّسبة لِشخص قرأها في القَرْنِ العِشرين. وفيما يلي توضيح لهذه النُّقطة:

بحسب العهد القديم، خَلَقَ الله الكون، بما فيه آدَم وحَوَّاء في سِتَّة أيَّام ثمَّ اسْتَراح في اليوم السَّابِع. فإذا تَبِعْتَ التَّسَلْسُل الزَّمَنيّ في التَّوراة من آدم إلى هذا اليوم، لَقَدَّرْتَ حصول الخَلق منذ 6000 سنة. و هذا مخالِف لِما تَوَصَّلت إليه الإكتشافات العلميَّة. إن الأحافير العائدة للمخلوقات ذات الأجسام الصَّلبة يعود عمرها إلى 700،000،000 ، سبعمائة مليون سَنة. وقد نَجِد في نهاية المَطاف أحافير أقدم للمخلوقات ذوات الأجسام الصَّلبة على الأرض. إن عُمْرَ خَليَّة واحِدة لِبقايا “جزئيَّات الأحافير”

يعود إلى ما 3,500,000,000 أي (3.5 بليون) سنة.

وباسْتِخدام “النَّظائر المُشِعَّة”، يُقَدَّر أن الأرض كانت موجودة منذ 4،550،000،000

(4.55 بلايين ) سنة.

هل الكتاب المُقَدَّس على خطأ؟ قبل أن اُحاوِل الإجابة على هذا السُّؤال، لا بُد من معالَجة عِدَّة قضايا.

 

من أين جاءت الحياة

 

هناك علماء تعتقِد بِأنَّ الحياة على الأرض ورُبَّما في أماكِن اُخرى من الكون يُمْكِن أن تكون قد تكوَّنَت من تِلْقاءِ نَفْسِها؛ بالصُّدْفَة، وأنَّه لم يكن هناك خالِق و تدبير (هندَسة) مُسْبَقة.

ثَمَّة تجارِب مُخْتَبَريَّة قد أُجْرِيَت على أمَل إنتاجِ خَليَّة حَيَّة، الوِحْدة الأساسيَّة في الحياة. وفي هذه الإخْتِبارات، تَمَّ اسْتنساخ ظُروفاً شبيهة بِحادِثة تكوين الأرض التي جرت منذ 3.5 بليون سَنَة، وبالإستعانة بالشَّرارات الالكترونيَّة وعوامِل أُخْرى، تَمَّ إنتاج أحماض أمينيَّة وبروتينات. إلا أن كل الإختبارات فَشَلت في إنتاج خَليَّة حَيَّة واحِدة.

 

من الوجهة النظريَّة العِلْميَّة، كل ما في الوجود ينبغي أن تكون له بِداية ما. لا تظهَر الأشياء من العَدَم. إذا حاولنا تَعَقُّب مَصْدَرَها فلا بُدّ من الوصول إلى طريق مَسْدود.

على سبيل المِثال، إذا قُلنا أَنّ السَّماء تُمْطِر، فَنَحْنُ نَعْني أنَّ البخار الصَّاعِد من سَطْحِ الأرض يُسَبّب تَشَكُّل قَدْراً مُعَيّناً من الرُّطوبة في الجَوّ. تُحْمَل هذه الرُّطوبة بتيَّارات هوائيَّة إلى أن تَصْطَدِم بِجَبْهَهٍ بارِدة، الأمر الذي يُسَبّب تَكثيفها لِتَعود إلى الأرض على شَكل “مَطَر”.

 

هذه الدَّورة تَتَكَرَّر إلى ما لا نِهاية طالما تَوَفَّرت الظُّروف المُناسِبة. السُّؤال هو هذا: كيف جاءت المياه إلى الوجود؟ ما الذي جاء أوَّلاً، هل الرُّطوبة التي تَكَثَّفَت في الجو أم المياه التي تَبَخَّرَت من البِحار والمُحيطات؟ بِغَضّ النَّظر عن إجابتنا عَن إحْداها، إلا أنَّهُ من خَلَقَها؟

إذا كُنَّا نَتَحَدَّث عن طِفْلٍ حديث الوِلادة، فإننا، وبشكل غير مُباشَر، نَتَحَدَّث عن المُنْتَج من البويضة والحيوان المَنَوِي (Sperms). السُّؤال هو هذا: (كيف تكوَّنت) البويضة والحيوان المنوي الأوَّل؟ هل كانا نتيجة تفاعُل كيميائيّ ما؟ إذا كان كذلك، ما هي العناصِر المُشْتَركة في ذلك؟ ما هي القِوى الخارِجيَّة المُسَلَّطَة؟ ومن خَلَقَ هذه العَناصِر؟ حَتَّى وإن تَمَكَنَّا من اكتِشاف مصْدرها، كيف جاء الإنسان الأوَّل دون أن يَتَصَوَّر في الرَّحْم؟ أيَّهما جاءَ أوَّلاً الطّفْل أم البَيْضَة؟ إذا قُلْنا أَنّها البيضة، فمن كَوَّنها؟ إذا قُلنا الطّفل، فَمَن كَوَّنهُ؟ وبالمِثْل، تَدَّعي نَظريات أُخْرى بأنَّ الحياة على الأرض قد جاءت  من أجزاء أُخرى في الكون بواسطة نيازك أو شظايا مُذَنَّبات.

حَتَّى لو كانت هذه النَّظَرِيَّات صَحيحة ، كيف وجدت الحياة على متن نيزَكٍ أو مُذَنَّب؟ كيف حافَظت على وجود الحياة فيها مع دخولها في الغِلاف الجَويّ الأرْضِيّ؟ من أين جاءَت؟ كيف تمَكَّنَتْ حياة كهذه من إنتاج تراكيب مُعَقَّدة لِمخلوقات حيَّة على الأرْض ؟

كم من الوقت اسْتَغْرَقَ إنشاء الكون؟

 

عندما قيل لَنا أن الكون تَمَّ إنشاءهُ في سِتَّة أيَّام، هل نتكلَّم عن أيَّام أرْضَيَّة؟ تَذَكَّر أنَّ كُلّ يوم أرْضِيّ يُمَثّل دوران الأرض في 360 درجة . فَبِحُكْمِ التَّعْريف، الأرض وسائر الكواكِب الأخْرى الشّمسيَّة تدور حول الشَّمس مَرَّة في السَّنَة؛ إن السَّنَةِ الأرْضية أطْول من السَّنة على كوكب عُطارَد وعلى حَدّ كبير أقصر من تلك التي لِلْمُشْتَرى أو زُحَل.

الشَّمس تدور حول مَجَرَّةِ دَرْبِ التَّبَّانة مَرَّةً كُل 230 مليون سَنة أرْضِيَّة (سَنة شَمْسيَّة واحِدة).

كما تَرَون، إنَّهُ قياسٌ نِسْبِيّ. وبِدون مَزيد من التَّوضيح من خلال مرجع مُحَدد عن إنشاء الكون في سِتَّة أيَّام، لن يكون لدينا فِكرة عن مدى “طول اليوم” الذي يُمَثّلهُ اليوم الواحِد لله تعالى.

 

ما هو مَصْدَرُ الشَّرّ؟

 

“وأنْبَتَ الرَّبُ الإله مِن الأرْض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكْل.وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر”- (التكوين 2:9  ) هذا يُبَيّن بوضوح أن الشَّر كان موجوداً قبل سُقوط آدَم وحَوَّاء. إذا كان الله هو “الصَّالِح” والخالِق الوحيد، فَلِماذا جاء الشَّر إلى الوجود؟ لِماذا لم يَذْكُر سِفر التَّكوين أيّ شَيء عنهُ؟ إن بَعْضَ النَّظِريَّات تقْتَرِح أنَّ الشَّر قد وجِد بعدما تَمَرَّدَت مجموعة من الملائكة على الله تعالى فانقَلبَت من مخلوقات صالِحة إلى شِرّيرة. في الواقِع لا أحد يَعْرِف.

إذا كان آدَم قد خُلِقَ بِقُوَّةِ الصَّلاحِ المُطْلَق، فَلِماذا كان من الضَّرورة اخْتِبار صلاح آدَم؟ ماذا يعْني هذا؟ ما هي النَّتائج المُتَرَتّبة على اخْتيار الشَّر؟ بالنّسْبَةِ إلى الكِتاب المُقَدَّس: ”  وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا” (تكوين3:3)

إذن، لو لم يأكل آدم وحوَّاء من هذه الشَّجرة، لَكانا سَيَعيشان إلى الأبَد. بَل لأنَّهما أكلا الثَّمرة حُكِمَ عليهما بالموت.

” بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ” (تكوين 3: 19)

هل كانت حَقّاً حية التي أغْوَت حَوَّاء؟ هل تحادَث آدم وحَوَّاء مع الحيوانات، أم كانت الحيَّة رَمْزاً آخَر للشَّيطان؟

 

هل كانت الثمرة المُحَرَّمة مُجَرَّد ثمَرة؟

 

وِفْقاً لِجميع الكُتُب المُقَدَّسة، الله تعالى كُلّي الرَّحْمة. واسْتِناداً إلى خاصِيَّتِهِ هذه، ألا يبدو غريباً لك، حُكْم الله تعالى بالموت على آدَمَ وحَوَّاء لتناولهما الثَّمَرة المُحَرَّمة؟ أم أن هذه الثَّمرة هي رمزٌ لأمر آخر، كالجِنْس؟ وإلَّا لِماذا شعروا بالخجَل لِكونهِم عُراة بعد تناولهم  هذه “الثَّمَرة المُحَرَّمة” واسْتعمالهم أوراق شَّجرة لِتَغْطية جَسَديهما؟ ألا يُمْكِن أن يكون الإمتناع عن الجِنْس هو أحَد الإخْتِبارات الأساسيَّة التي كان على آدم وحوَّاء اجتيازها في حياَتهما، ثُمَّ فَشِلا؟

 

كيف مَلأ نسْل آدم وحَوَّاء الأرْض

 

هل حَقَّاً كان آدم وحوَّاء أوَّل المخلوقات البشَريَّة على الأرض؟ أم أنهما تواجَدا مع مخلوقات بَشَريَّة أُخرى؟

عندما طُرِدَ آدم وحوَّاء من جنَّة عدن كان لديهما إبنان، قايين وهابيل.

عندما قَتَل قايين هابيل،… ”  فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ. وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ” (تكوين 4: 15)

من كان هناك إلى جانِب آدم وحَوَّاء ليقْتُلَهُ؟ كان آدم في عامِهِ ال 130 عندما ولد ابنه، شيث.

لكن من أين جاءت امرأة قايين؟ وأيضاً، لماذا كان قايين يقوم بِبِناءِ مدينة؟ ما كان، عدد، سُكَّان الأرض الذي يُبَرّر بِناء مدينة؟

وهُنا مقطع آخَر:  “كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذلِكَ أَيْضًا إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَدًا، هؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ” (تكوين 4:6)

من هُم هؤلاء العَمالِقة؟ إذا كانت ذُرِيَّة الذُّكور من نسل آدم قد عُرِفَت باسم “أولاد الله”، فلماذا عُرفت البنات باسم “بنات النَّاس”؟ هذا إلَّا إذا لَم يَكُنَّ من نسْل آدم.

كل المُؤشَّرات تقودني للإيمان بأنَّ الأرض كانت مأهولة من البَشَر حينما طُرِد آدم وحَوَّاء من جَنَّة عدن.

 

هذا يُعيدني إلى السُّؤال المَطروح في وقتٍ سابِق: ” هل الكتاب المقدَّس على خطأ أم أن بياناتنا العِلْمِيَّة على خطأ؟ أعْتِقِدُ أن كِلاهُما على صَواب.

 

اللاهوتيون على صواب في القول أن آدم عاش وأنجب ذُرِيَّته الأولى قبل 10000 عاماً. إلا أنهم على خطأ في رَبْطِ وجودهِ ببداية الحياة على الأرض. إن الأدلَّة العلميَّة المتَوفَّرة لنا اليوم لَهِيَ دامِغة وغير قابِلة للدَّحض.

لقد مَرَّت الأرض ببلايين السّنين من التَّطوُّر مُعَزِّزَةً دائماً مَظْهَراً ما من الحياة. وبما أنَّهُ ليس بالإمكان استِدعاء العِلم لِتَقديم الإجابات، وأننا لا نستطيع الإعْتماد على الكتب المقدَّسة لتقديم إجابات واضِحة، إذن هل يَكْمُن خيارنا الوحيد باللجوء إلى مجال الميتافيزيقيا؟

إنه بِمُجَرَّد أن نبدأ النَّبْش في مجال الميتيافيزيقا، سَنُقابِل العديد من نظريات الوجود، ولِكُل نظريَّة، سَنَجِدُ عدداً من التَّفسيرات. وإذ ذاك، إذا كانت الحقيقة مادّية على نَحْوٍ صارِم، نبدأ نسأل أنفسنا. هل هي مِثاليَّة؟ حياديَّة؟ ثنائيَّة؟ تَعَدُّديَّة؟ نحن نُحَلّل كُلّ نظريَّة مقارِنين إيَّاها بِنَظَريَّاتِنا في الحياة، فإمَّا أن تُفْهَم وإما لا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدَّاهِشيَّة ورِحْلَةُ الحياة

 

بِقَلم مُنير مراد

ترجمة يوسف ق. سلامة

 book-cover

محتويات الكِتاب*

 

مُقَدّمة التفسير التي كتَبها المَعْرض الوطَنيّ للفُنون (واشنطن العاصِمة)  الصفحة الأولى

 

الفصل الأوَّل: أن تكون أو لا تكون

الفصل الثَّاني: العقائد الدَّاهِشيَّة الفَلسَفيَّة

الفصل الثالِث: السَّبب والنَّتيجة، حقائق الحياة وغُموضها

الفصل الرَّابِع: الحقائق والأوهام والأيَّام الأخيرة

الفصل الخامِس: من هو الدكتور داهِش

مُلَخَّص عن المبادِئ الداهشيَّة الأساسيَّة

المراجِع

 

*   ملاحَظة هامَّة: سيَتِمّ نَشر الكتاب فَصْلاً فَصْلاً على مراحِل زَمَنيَّة، وبِناءً عليه سَيَتِمُّ تحديد رقم الصَّفحات وطباعتها في قِسْم  الفَهْرَس (محتويات الكتاب).

 

 

 

مُقَدّمة التفسير التي كتَبها المَعْرض الوطَنيّ للفُنون- واشنطن العاصِمة

 

ترجمة يوسف قبلان سلامة

 

 

إنَّ رحلة الحياة لِتوماس كول (1801-1848)1 هي (الرَّمز التصويري) لمرور كل رَجُل في مراحِل الحياة التَّقليديَّة الأربع: الطفولة، الشباب، الرجولة والشيخوخة. إنها رِسالة من سِلْسِلةٍ تَعْكِسُ بِدِقَّة الحالَة المِزاجيَّة للرُّبْعِ الثَّاني من القَرن التَّاسِع عَشَر عندما كانت الحياة أقْصَر والموت أكثَر شيوعاً. ومع ذلك كان هناك تفاؤل يَفوق الحَدّ في أُمَّة الشَّباب الواعِدة. وبِتعزيز ما يَخُصُّ الرَّحَّالة -(في اللوحَة) فيما يَتَعَلَّق بِإجراءاتنا (الحياتِيَّة)، مظهَرنا، إيماءاتِنا، تَمَّ الإعْتِبار (مجازيَّاً) أنَّ إعداد المشاهد في هذه اللوحات، هو عامِلٍ مُشارِك في إنشاء مزاجيَّة الإنسان في مراحِل تَطوّره. وفي نَفْسِ الوقت، رَمْزيَّتها فيما يَتَعَلَّق بالعُبور المَسيحيّ. كذلك ترمز المناظِر الطَّبيعيَّة إلى المراحِل الفَصْليَّة واليوميَّة للتاريخ، مُظْهِرة التَطَوّر من خُضرة الرَّبيع إلى انسِحاب الخَريف، ومُرور اليوم من الصَّباح إلى الليل. لكن، في غياهِب هذا النّسيان المُظْلِم، يَشِعُّ الخلاصُ نوراً أبَدِيَّاً.

لاحِظ أنَّ الرّمال في السَّاعَةِ الرَّمليَّة التي تُمْسِكها “شَخصيَّة السَّاعة” في مُقَدّمة المَرْكَب من القارِب تسْتَمِر بالنَّفاذ مع تَقَدُّم المجموعة، وأنَّ أوقات آخر الليل المُبْتَسِمة “المنحوتة” حول حافة المركب الصغير تكون آخذة بالإضطراب أكثر فأكثر حَتَّى تصطدم “وجوهها” على إثر سقوطها  في البحر عَبْرَ الأنبوب المائل حيث يصعب التعرُّف عليها، حيث العودة إلى الحياة مُجَدَّداً في نهاية المَطاف.

 

 

في الصُّوَر الأربع يقوم “كول” بِتَصْوير  الرَّجُل على أنَّهُ يُواجِه الحياة وَحْدَهُ، أمَّا بِخُصوص مَرْحَلَةِ الطُّفولة والشَّباب تَظهَر صورة الطُّيور (في وسط كل صورة) ضئيلة الأهَميَّة أمام عَظَمة الطَّبيعة.

 

الرُّسوم وتفسيرها

 child

كما صَاغَها الفَنَّان: ” نهر ما يُشاهَد نابِعاً من من كهف عميق في جانِب أحد الجِبال الصَّخْريَّة الرَّهيبة حيث تختَفي قِمَّتها في الغيوم. ومن خلال الكهف ينْزَلِقُ قارِبٌ ذا مُقَدّمةٍ ذات جوانب منحوتة على صورة عقارِب ساعة تُوَجّهها أشخاص ملائكيَّة مُحَمَّلَة بِبَراعِم وزُهور، وتْحْمِل على عاتِقها طِفلاً ضاحِكاً،  نَرى مُحاولة الفَنَّان في تحديد طبعها. تَرْمُز ظُلمة الكهف واكتِئاب السَّماء إلى أصْلِنا الدُّنيَويّ وماضينا الغامِض. القارِب مُكَوَّن مِن شَخْصِيَّات؛ هي صوَرٌ للحَظات،  تُمَثّل غيابنا في تَيَّارِ الحياة. أمَّا ضوء الصَّباح الوَرْديّ، والنَّباتات والزُّهور السَّامِقة، فهي شِعارات لِبَهجة الِحياة في بِدايتها.

 

 

مَرْحَلة الشَّباب

 youth

تُمَثَّل مرحَلة الشَّباب بِتَوَلّي قيادة الدَّفَّة، بِثِقَة واندِفاع، في أنه غير مُدْرِكٍ، وشاعِرٍ بِعَدَم الحاجة إلى الملاك وحِمايتهِ؛ الملاك الذي يقِف جانباً مُتيحاً له توَلّي قيادة الدَّفَّة.

فقط قبل  نزول “الشَّاب” من القارِب لمُتابعةِ سَيْرهِ في الطَّريق الوهميَّة إلى نَظيرتها القلعة الوهميَّة، يأخذ نهر الحياة إذ ذاك بالإضطِراب فينحَرِف صوب الحَق؛ إنه هاجِس المُسافِر الشَّاب لِمواجهة مُشْكِلات الرُّجولة.

إن صَخَب النَّهْر المُتَزايد.  يُمْكِن مُلاحَظَتهُ هذا في المساحات عبْرَ الأشجار، الأمر الذي يُشير (يَرْمُز) إلى مَجيء صِعاب أكبر في المُسْتَقْبَل.

 

الرُّجولَة

 manhood

بالنّسبة لِ “كول”، كانت مرحلة “مُتوسّط العمر” هي الفترة التي تَكْثُر فيها المُغْرَيات بما فيها المَيْل إلى الإنْتِحار، العَصَبيَّة، والقَتْل. إنها التي جَسَّدَها “كول” بأشكال شَبَحيَّة في السَّماء. إنه الآن عِندما يدخُل بَرِيَّةً سماءها قد مسحها إعصار بِلون أصفر، كائنة على مسافة ما منه، تُذَكّرُهُ بِجدولهِ الزَّمَنيّ الذي لا مَفَرَّ مِنْهُ؛ حيث ذِراع المِقْوَدِ مفْقود والمُسافِر غير قادِرٍ على السَّيْطَرَة على مَصيرِهِ. إنها المرة الأولى التي يشكُّ فيها بعدم قُدْرَتِهِ على التَّأقْلُم مع الحياة، فيجْعَل يتَلَمَّس السَّماء بِتوَسُّل. لكن ومع ذلك يسْتمِر الإنسان في شَراهَتِه بِحراسة ممتَلَكاتِهِ التي جَمَّعَها التي يَظهر أنَّ نِصفها مُخَبَّأ، وذلك بِرَغْمِ فُقدان جَرَّة كبيرة، الأمر الذي يُشير إلى أنَّهُ في النّهاية يتمُّ فُقْدان كُل شيء.

إلى يمين اللوحة تَقِف أشجار تُمَزّقها عواصِف، والنهْر ذو الإضطراب المُتَزايد، وقد صارَ سَيْلاً، يُنْذر الرجل بمعرَكَتهِ النّهائيَّة.

إن الملاك الحارِس الذي ما زال مَخْفيَّاً بالنّسْبَةِ للمسافِر، يراقبه بهدوء، غير ناسٍ لكنَّهُ مُتعاطِف.

 

 

 

الشيخوخة

oldage

وفقاً للفَنَّان، الغيوم العجيبة تتوالد عبر محيط منتصف الليل الشَّاسِع.

صخور قليلة تُرى في العَتمة- آخِر شواطئ العوالم.

القارِب، مُمَثّلاً الهيئة الزَّمَنيَّة للإنسان، قد استُنْفِذَت قُوَّته ليطفو بلا حِراكٍ فوق المُحيط المَيْت. الساعة الرمليَّة التي أحصت سِنَّهُ قد وَلَّت، والأوقات أيضاً. كل الأمور الدُّنويَّة التي جَمَّعَها قد تناثَرَت وما عادَتْ  تَعْنِيه إطلاقاً. وللمَرَّة الأولى يَظهر  له الملاك الحارِس، ,واقِفاً أمامه مشيرا إلى النور المجيد الذي لاح أمامه من خلال زوبعة ارتفَعَت أمامه فجأة بِشَكلٍ غير مفهوم من مكان قَريب، من البحر؛ ملائكة نزلَت للتَّرحيب بِالرَّجُلِ في ملاذ الحياة الخالِد.

 

 

 

المُقَدّمَة

بقلم مُنير مراد

ترجمة يوسف ق. سلامة

قبل عِقْدٍ خَلا، عندما كنتُ في الثالِثة والعِشرين من عُمْري، كَتَبْتُ قصيدة نثريَّة كانت آنذاك انعكاساً لِموقفي مِنَ الحياة.

وبعد قراءتي إيَّاها مُؤَخَّراً وَجَدْتُها ما تَزال تعْكِس الأمر بِشكل جَيّد، باسْتِثناء أنَّني كُنْتُ ساذجاً لِسَبَبَيْن في أمْرَيّ الصَّداقَةِ والحُبّ. سأتناول أمر هاتان القَضيَّتان في متن هذا الكتاب.

إنَّ عنوان هذه القصيدة هو “الرّحْلَة”؛ إنها الرحلة ذاتها المُتَضَمَّنَة في هذا الكتاب وَالذي جاءت بِعنوانه. هذه “الرّحلة” هي رَمْزَيَّة، وهي عَرْضٌ مُوجَزٌ عن فَهْمِنا للحياة في مَعْناها وَ وَغَرَضِها. بالرَّغم من كَوْنِ قصيدة النَّثْر رَمزيَّة في توظيفها وأنَّها تُلمّح إلى الحياة الصُّوفيَّة في طبيعتها إلَّا أنَّني أُقَدّمها إلى القارِئ كوسيلة للحصول على لَمحة عَنِ الآتي:

 

كان هُناكَ وقتاً اسْتَرْجَعْتُهُ

حيث كان الَّلعِبُ بهجةً، والبَهْجة حياة

لا أَذْكُر مَتى بدأ

لا أعْلَم لِمَاذا كان َعَلَيْهِ أن يَنْتهي.

في وقت ما، وفيَ لَحْظَةِ عُزْلَةٍ، اسْتَعْرَضتُ في ذاكرتي أيَّامَ الطُّفولة هذه، حيث تَمَكَّنْتُ من رؤيَة كًلّ أصْدِقائي مُجَدَّداً.

كان الأمر واقِعيَّاً بحيث استَطعْتُ مناداة كُلٌّ باسْمِهِ.

تَذَكَّرْتُ الألعاب التي لَعِبْناها، ضحكاتنا بَراءَة صداقتنا.

لكن ما كان لهذه الأيام أن تدوم طويلاً.

لقد انتهَت عندما أعْلَمَني والدي بأنَّهُ لَديّ رحلة يجب أنّ أخوضها

وإذا بالحيرة والارتِباك يَتَمَلَّكاني، ومع ذلك، وَوِفْقاً له، كانت حَتْمِيَّة.

إلى أين؟ كيف؟ لأيّ غَرض؟ كان سُؤالي.

وكان جوابهُ: هناكَ سَيَّدة تُحِبُّكَ، في الواقِع أحَبَّتْكَ مُنْذُ البِداية، وستقوم على انتظارك مهما طال الزَّمَن.

فقط اتْبَعِ الحَشد، قال لي، لأنَّهم يذهبون في نَفْس الرّحْلة وستَجِدكَ بينهم.

فقط عندما تراها، سَتَنْتَهي رِحلتكَ، وسَتَعْرِف ذلك.

بَدأتُ الرّحْلَة.

كان المَعْبَرُ منحدراً إلى الأعْلى.

هل ممكن أن أكون مُرافِقُكَ، سألْتُ أوَّل شخص وقعت عيناي عليه.

نَظَر إليّ نظرة بِإبْهامٍ، لَمْ يُجِبْ، ثُمَّ واصَل رِحْلَتهُ.

لم أَكُن اعْرِف لِماذا.

كَرَّرتُ السُّؤال نَفْسهُ على كُلّ رجل وامرأة واجهْتُها.

الأكْثَرَيَّة تَبِعَت خطواته، وعدد قليل قَبِلوا عَرْضي.

كَرِفْقَة كان لَدينا فُرْصَة التَّعَرُّف على الآخَر.

كَرِفقة ساعدنا بعْضنا بعضاً عند اشْتداد وعورة وخُطورة الطَّريق.

كَرِفْقَةٍ وَجَدْنا الإرادة لِمُواصَلَةِ السَّير في طريق نَفْسِهِ.

كنتُ قريباً جِدَّاً من إحداهُنَّ، وأصْبَحَتْ لي حبيبة.

كَسِبْنا بِضعةَ أصْدقاءٍ عندما كنا في الطريق، وخسِرنا غيرهم كثيرين، لأنهم كانوا قد وصلوا إلى وِجْهَتِهِم.

إن رحلَتي طويلة ومُرهقة، لكن لا جُرأة لي على التَّوَقُّف.

إنها كالشَّيء الذي متى بدأتَهُ لا يُمْكِنكَ إيقافهُ.

إن الرَّابط الذي جمع البعض مِنَّا نَمَا بِقُوَّة على طول الرّحْلة أكثر فَأكْثَر.

كان المَمَرُّ يضيق أكثر وأكثر كُلَّما اقتربنا من قِمَّة المُنْحَدَر.

فقدنا عدداً ليس بِقليل من الرّفْقَةِ على القِمَّة، لكننا رَبِحْنا عدداً قليلاً.

لَم يَنْتَهِ الطريق هناك، وبدلاً من ذلك، صار الإنحدار إلى أسْفَل أكثر وعورة على الإطلاق.

 

وبِمَواصَلَتي لِرحلتي جَعَلْتُ أصَلّي بِحرارة أكثر وأكثر كُلَّ يومٍ لِكَي لا يُصبح الطريق أكثر وعورة، واُبوحُ صارِخاً للفتاة التي تَبْحَثُ عَنّي: أين أنت يا سيَّدة؟

ما الذي يُؤَخُّرُكِ إلى هذا الحَدّ؟

 

في عام 1842 قام توماس كول ( 1801- 1848) برسم مجموعة من أرْبَعِ لوحات زيتيَّة تحت إسم “رحلة الحياة” (انظر إلى فاتِحة الكتاب).

 

فَكما يُشير العنوان، لَقَد شَبَّه الفَنَّان الحياة بِرِحْلةٍ. إن لِكلمة رِحلة عِدَّة دَلالات:

1- إنَّ لِكُلّ رِحْلَةٍ نُقْطَةُ انْطِلاق.

2- لِكُلّ رِحْلَةٍ وِجْهة.

3- لِكُلّ رِحْلَةٍ مُدَّة زَمَنيَّة.

4- إنَّ أيّ رِحْلَة هي اسْتِمرارٌ لِنوع ما في الوجود.

5- هناك استمراريَّة حياة بعد إنتهاء الرّحْلة.

 

ما هي هذه الرّحْلة؟ ما الذي يوجِب وجودها؟ ما الذي وجِدَ قبلَ أن تَبْدَأ؟ ما الذي سيحْدُث عِنْدَ بُلوغ الهَدَف؟ لماذا هي قَصَيرَة بالنّسْبَة لِبَعْض وطويلة لآخَرين؟ لماذا هي صَعْبة بالنّسبة لِبعض وسهلة لآخَرين؟

إَّن الدَّاهِشيَّة تتناوَل هذه القضايا وغيرها الكثير، وما أنت على وشك أن تَقْرأهُ في هذا الكِتاب هو غير عادِيّ حَقَّاً. إنَّ الدَّاهِشيَّة هي ثورة في نهجِ الإنسان، في الفَلْسَفة، في الحياة والدّين. إنَّها ثوب جديد لِلكيان الفِكريّ التَّقليدي والمُعْتَقَد. إنَّ هدَفَ الداهشية هو توفير اعتقاد شامل يشمل جميع المعتقدات الأخرى. إنّ في تحقيقها هو أن جَمْع عِوَضَ شَرْذَمَة  المُعْتَقدات الدّينيَّة، كما أنها تَسْعى إلى النُّمُوّ بَدَلاً من الإنكماش الفِكرِيّ الفَلْسَفيّ.

لكن تَنَبَّه، إذ قراءتكَ لهذا الكِتاب تَتَطَلَّب انفِتاحا فِكْريَّاً عالياً.

إذا بدأتَ قِراءة هذا الكِتاب مع فِكرة راسِخة بأن ما تُؤمِن به لا يَحْتَمل التَّغيير، فلا تُتابِع، لأنك غير مَعْنِيّ بالدَّاهِشيَّة وبهذا الكِتاب.

فالأمر يتطلَّب إنسانا ذي فكرٍ مُنْفَتِحٍ جداً لِفهمهِ وتقديرِهِ، وبالرَّغم من ذلك قد يكون الأمر فوق احْتمال البَعْض.

ليس الغَرَض من هذا الكِتاب هو تقديم عِظة عن الصَّواب والخَطّأ تمَّ التَّدرُب على إلقائها، أنا على ثِقَة بأن القرَّاء يميّزون بين الإثنين.

كما أنه ليس الغرض من الكِتاب تجاوز مُعْتقدات القُرَّاء.

على العكس من ذلك، إن الكتاب يتناوَل هذه المعْتَقَدات كأعْمِدَةِ أساس لِمَبْنى فَيَبْنِي عليها. آمِلاً اهْتِداء القارِئ إلى طريقَتي في التَّفكير وإلى الدَّاهِشيَّة، لكن، ومع ذلك، فإنه يكفي بالنسبة لي تقديم الحُجَج والحُجَج المُضادَّة على أمل أنها سوف تَحْدو

بالقارئ إلى  التفكير؛ وإذ ذاك ، إلى رَسْمِ اسْتِنْتاجاتِهِ الخاصَّة.

أشُكُّ بأن كثيرين بعد قراءتهم هذا الكِتاب سينْعَتوني بالمجنون،و المُنافِق، و عَدوّ دين لهُ نِظامهُ، وشخص غير مُتَّزِنٍ عَقليَّاً، لكنّني آمل بأن آخرين كثيرين سيَرَون الأمر مُخْتَلِفاً.

عندما كان نوح خاضِعاً لأوامِر إلهيَّة صارِمة لِبِناءِ فُلْكٍ بحجمٍ مُعَيَّنٍ، ظَنَّ شَعْبَ زمانهِ بأنَّه مجنون. وقد نُظِرَ إلى عائلته أيضاً على أنَّها شاذَة؛ إذ لم يَتَّفِقوا مع أقرانِهِم في السُّلوك الأخلاقيّ. الأمر نفسَهُ حدث مع يسوع المسيح إذْ نُعِتَ بالمُنافِق، والسَّاحِر، والشيطان كما أَطْلَق َعليه رجال الدّين ومُعْظَم النَّاس.

 

إن حقيقة أن يكون الإنسان منبوذاً فِكريَّا في مُجْتَمَعٍ ما لا يعني بالضَّرورة أن يَكون سَيّئ المَنْزِلَة طالما كانَ على ثِقة بِصِحَّة وأخلاقيَّة سَبَبِهِ.

من المُهِم الإعلان بوضوح هنا بأنني أُعَبّرُ عن مدى فَهْمي للعقيدة الدَّاهِشيَّة ليس إلَّا. أرى نَفْسي “كنَفْس” مُحْبَطة، كَغيرها، غير راضية عن الوضع الدّينيّ والفلسفيّ والإقْتِصاديّ والفَنّي  وكل ما يَمُتّ لِجوانِب الحياة بِصِلَة.

أصِلُ إلى أناس يحْمِلون وجهات نَظَرٍ مُماثِلة وأسألهم مقارنةَ وجهات نظرهم بوِجهة نَظَري. إنَّ هَدَفي الوحيد في الحياة هو أن أفهم المزيد عن العالَم الرُّوحِيّ ومدى ارْتِباطِهِ بِوجودِنا. إن دوافِعي غير مادّيَّة وستكون كذلك دائماً.

إن مُحْتَوى هذا الكتاب لَيَعْكِسُ أصْدَقَ رُؤية عن مُعْتقداتي في الحياة، وها أنا أقُدّمها لك لِتُعاينها.

1( كان الدكتور داهِش مأخوذاً جِدَّاً بلوحات “توماس كول” الفَنَّية وكثيراً ما كان يَقْصِد رؤيتها في المتحف أثناءَ زيارته.)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هل يمكن أن تكون الداهشيَّة هي الحَلّ؟

 

المقَدّمة بِقلَم يوسف ق. سلامة

 

مقَدّمة

إنَّ ما سيُطالِعه القارِئ في هذا المَقال الرَّائع لَهُوَ الحقيقة في حكمتها ورُقِيّها، إذ يأخُنا في رِحلة روحَيَّة مباركة نَقْطِف  فيها ثِمار خِبْرة روحيَّة قَلَّ نَظيرها. فما كتَبَهُ الأخ العزيز مُنير مراد هو عُصارة خبرة اخْتَصَرها في سطور تُغْني عن كتاب. فَمُنذُ بِداية حياتِه واخْتباره للحياة بالتِزامِهِ بوصايا الدكتور داهِش نَجد أن الحَق يَكْمُن في تطبيق وصايا الرّسالة الداهِشيَّة التي تَدعو إلى الإيمان بالله وبوحدة الأديان؛ يُفَسرها من خلال عَمَل السيَّالات في الكون التي هي قوام الكائنات والعامل المشترك بينها. حيث ينتفي الفَرق بين الإنسان وأخيه الإنسان، حيث يكون المرء واحداً مع الطَّبيعة بالإعتناء بها كنَفْسِهِ؛ وبالتَّالي احتِقار ونَبْذ كل ما هو مادّي يُشُد النَّفس إلى الإنحِطاط والإندثار في دركات الجحيم. فهدفنا المنشود هو الإرتقاء الرُّوحي والإتحاد بكلمة الله تعالى حيث تجتمع السيَّالات إلى الأبد في كوكبها الفردوسيّ المنشود.

سيرى القارِئ مقالاً يشرح معنى العيش المشترك الحقيقيّ وكل ما يَمُت للروح من فَضائل مُبارَكة في معناها ومغزاها لا سيما من خلال اختبارِها الفِعْليّ التي الكاتب هو مِثالٌ عظيمٌ لها، في الرسالة التي جاءت لِتُذَكرنا بالمعنى الحقيقي للأديان.

 

هذا المقال قد نُشِر لأول مرة في العدد الأول لِمجلة صوت داهِش عام 1995

 

 

 

بقلم مُنير مراد

ترجمة يوسف ق. سلامة

 

هل يُمْكِن أن تَكُون الدَّاهِشيَّة هي الحَلّ؟

 

أنا عربي أمريكي  جاءَ إلى الولايات المتحِدة الأمريكيَّة قبل عشرين عاماً، كنت آنذاك في السادسة عشر من عُمري. وقد طُبِعْتُ في تلك الأثناء على عادات وتقاليد شرقنا الأوسط التي كانت وسَتَبقى جزءا مِنّي. وبِرَغْم مرور حوالي جِيلَيْن على مكوثي في هذا البلَد إلا أن لهجتي الإنجليزيَّة ما زالت  متواضِعة ، حَتَّى أن أغذية الشَّرق الأوسط ما زالت المُفَضَّلة لَديّ. وبَعْدَ انتقالي إلى هنا، شَعَرْتُ بحُبّ لأشياء في ثقافة وعادات وطني و بِبُغضٍ لأُخرى. وبرغم ذلك، وفي ذلك الوقت، كان يُداخَلني شعور عميق بأنني لَسْتُ من الشَّرْق وبضَرورة انتقالي إلى الغَرْب.  تُرى هل كان ذلك الشعور ناتِجاً عن نُّفوذ الغَرْب المُتزايد في المنطَقَة؟ يمكن ذلك، لكن ، ودائماً، يوجد شيء اسمه المَصير.

 

أمَّا عن جَدَّايَ فبالكادِ تَمَكَّنوا من النُّزوح من تُركيا إبَّان المجزرة الأرمنَيَّة في عِشرينات القرن الماضي. وفي الأربعينات ، كان على عائلتي الإنتقال من القدس الى بيت لحم لتَجَنُّب القتال بين العرب والصهاينة، لِيجدوا أنفسهم  في نُزوح من الضّفة الغربية في الأردن إلى لبنان بعد فترة وجيزة من الحرب الإسرائيلية-العربية 1967. عند اندِلاع الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة غادرتُ وعائلتي إلى أمريكا.

وهكذا، في غضون ستة عقود، اضطرت عائلتي إلى تَخَلّي عن المنزل مَرَّات عديدة من أجل البقاء.

لَم تَكُن هذه التجرِبة خاصَّة (فَريدة) فَملايين البشر اختبروا هذه الحالة، وملايين آخرين قد يكونوا في اختبار لها حاليَّا أو سيختبِروها في المستقبل. لماذا؟ إنَّه سؤال مُحَيِّر! لِمَ يذبح الأتراك الأرمن؟ لِماذاَ يتقاتل العرب والإسْرائيليُّون؟ لِمَاذا يتقاتل اللبنانيُّون بين بعضهم البعض؟ لِهذه النّزاعات أسباب سياسيَّة، لكنها، تَحْدُث، بِسبَبِ الدّين كَسَبب أساسيّ.كم هو مُحْزِن! فبإضافتنا النزاعات الإقليميَّة والسياسيَّة إلى الدّينيَّة نحصل على إنسانيَّة غارِقة في البَغضاء. ويزداد الأمر سوءاً عندما نرى أن تَدَخُّل القوى الكُبْرى يأتي فقط عند تَوَفُّر مصالِح إقتصاديَّة في البلاد الحاصِل فيها النّزاع.

في الغَرْب، وجَدْتُّ أن المكان يواجه كثيراً مِمَّا يواجهه الشَّرْق، لكن على مستويات مُتَفاوِتة. ومن المشاكِل الطَّاعِنة للإنسانيَّة بالوباء هي التَّعَصُّب العُنصُريّ و العِرْقيّ وتهديم الوِحدْة العائليَّة. فإذا أردنا حَلَّا لِهذه المسائل، كيف يمكن ذلك؟  هل نبدأ بِثَورة مُسَلَّحة؟ هل نَتّجه صوب الأصوليَّة الدّينيَّة؟ لا بكل تأكيد. إن سفك الدماء لن يُنْتِج سوى مزيداً من البغض وسفك الدّماء.

لن ينتج عن الأصوليَّة الدينيَّة سوى عَزل الفكر الحُر للأفراد  وبالتَّالي تسبيب الفوضى.

لكن عِوَض ذلك إذا حَكَّمنا التَّفكير السَّليم ستكون للإنسانيَّة فُرصة جديدة.

أنا أُقَدم مفهوماً فلسفيَّاً إذا تَمَّ تَبَنّيه سيقود إلى عالم مختلف وأفضل بِمراحل كثيرة. هذا المفهوم يُدعى الدَّاهِشيَّة.

 

في البداية، علينا التَّخلُّص من المُسبّب الرَّئيسيّ للكراهيَة الدّينيَّة. يمكننا التخلُّص مِن عَداء كهذا بِتَقَبُّل مُعْتقدات الآخرين.  ودون قيد أو شَرْط على الدَّاهِشيّ أن يَقْبَل بأن أصل الأديان هو واحِد وذلك على اختِلاف أنواعها وجماعاتها ومستويات الوعيّ الفِكري لِأبنائها عبر الأزمنة.

الدَّاهِشيَّة لا تُفَرّق بين يهوديّ أو مسيحيّ أو مُسلم أو بوذي أو هندوسيّ. فالدَّاهِشيّ ذو الجذور المسيحيَة عليه أن يُنادي بتعاليم الإسلام وغيره من الأديان. والأمر نفسه ينطبق على الداهِشيّ الآتي من جذور إسلاميَّة أو يهوديَّة أو هندوسيَّة أو بوذيَّة أو أي دين آخر. فسِرَّاً أو علانيَّة،على الدَّاهِشيّ ألا يحمِل في قلبه تَحيُّزاً لأي دين عند حدوث نزاع بين جماعات دينيَّة . فخلافات كهذه تناقِض جوهر التعاليم الدّينيَّة. الداهِشي يقبَل بموسى و عيسى ومحمد وغيرهم كأنبياء لله. كذلك مارتن لوثر وغاندي وكثيرون غيرهم كَهُداة روحِيين. ولكن مِمَّا يُحيّرني هو أنه برغم عبادة أتباع الأديان لإله واحد، كُل يقول بِعِبادة الإله الواحِد. فإذا كانت كل فِئة تؤمن بقوة موجِدة واحِدة، ألا يقودنا الأمر منطقيا إلى الإستنتاج بأنهم يتحَدَّثون عن نفس الأمر؟ فإذا قبِلْتَ هذه المعادلات الثلاثة الآتية:  أ+ب=ج، أ+ب=د، وأ+ب=ه  فيكون الجواب منطقيّاً: ج=د=ه إذن على كل داهِشي أن يُسَلّم كامِلاً بأن الله واحِدٌ أحَد. إنه لهذا الإله الواحِد تُرْفَع صلواتنا. إن الإسم (بمعناه) الذي تُطْلِقْهُ على هذه القُوَّة الموجِدة هو غير ماديّ. باستطاعتك دعوتهُ َ، رَبّ، الله، أو أي إسم آخَر. الدَّاهِشي يعتَبر أن الله هو القوَّة المُهيمنة على الكون بأسْرِهِ ويؤمن أن من صِفاتهِ الكثيرة المَحَبَّة، العدل، الحكمة، المُسامَحة.

ولكن كيف يمكن لله أن يكون عادِلاً في حين انه يسمح بحدوث عِقاب أليم غير عادِل؟ كيف يمكن لله أن يسمح لِشَخص أن يولد أعمى و آخر بعينين سَليمَتين؟ كيف يمكن لله أن يسمح بولادة شخص فقير وآخر غَنيّ؟

إن الأمر أن الله عز وجَلّ عادل وما تراه هو إحقاق للعدالة.  إن الداهِشيّ يؤمن بنظام عدالة كونيّ قوامُه مجازاة كل إنسان بحسب أعماله خيراً كانت أم شَرَّا، وذلك في حَيَواته السَّابِقة والرَّاهِنة. لا جريمة يمكن أن تَمُرَّ دون عِقاب، كما لا يمكن لِعَمل صالِح أن يَمْضي دون مكافأة. يؤمن الداهشيّ أن حياتنا الحاليَّة إنْ هي إلا فُصولٌ في سِفْرِ الحياة وأن انتقالنا من فصل إلى آخر يكون عبر التَّقَمُّص.

 

ومن وجهة النَّظَر هذه، التَّقمص هو رحمة إلهيَّة من لدن  تعالى تَسْمح لنا بالعيش من فترة لأخرى حَتَّى يَتَسَنَّى لنا التَّخَلُّص التَّام من رِبْقة قوى الشَّر. إن مفهومَيّ النَّعيم والجحيم المُعَرَّف عنهما في الكتب المُقَدَّسة إنْ هو إلا تبسيطٌ زائد عن حقيقة الأمر هنالك.

 

إن العالمَ مليءٌ بالعوالم المأهولة. إن مجموع العوالم التي تَفْضُل عن عالمنا تُدعى النَّعيم أو العوالم الفردوسيَّة، كما تدعى العوالم المعْتَبَرَة أكثر دناءة من عالمنا بالدَّركات أو الجحيم. هل تعتقد حَقَّا بأننا الكائنات الحيَّة الوحيدة في الكون الشَّاسِع؟ ليست أرضنا سوى جُسَيم من غبار مقارنَة مع حجم الكون. لِمَ يذهب الله تعالى إلى هذا الحَدّ إذا كان همُّه الوحيد هو إيجاد حياة على الأرض؟ إن الكون واسِعٌ لأن الله ملأه بالحياة. يؤمن الدَّاهِشي بأن كل ما هو موجود خاضِع لِصراع الخير والشَّر لكن على مستويات متفواتة.

 

لا يمكن لأرواحنا بلوغ الكمال والإتحاد بروح الله في العالَم الروحيّ سِوى عندما نتحرَّر من قوى الشَّر بشكل نهائيّ. ليست حياة كل مِنَّا سوى مظهراً من مظاهِر الرُّوح الكائنة في هيئة مادّيَّة.

 

يُؤمن الدَّاهِشيّ بأن لهذه الرُّوح امتدادات لا عَدَّ لها متّخذة أشكالاً غير معدودة في عوالم النَّعيم والجحيم. وبكلمات أخرى، إن روح الفرْد مُتَّصِلة بعوالم ذوات أشكال حياتيَّة مُخْتَلِفة. تتميَّز الداهِشيَّة عن الفلسفات في فكرة الوجود المتزامن (الوجود في وقت واحد) في جميع انحاء الكون.

إذا غلبت دكونة أو خِفَّة لون بَشَرة على شخص عن شخص آخر فهل هذا يعني  أن شخصاً أفضل من آخر؟ لا بكل تأكيد.  لا علاقة لِصَلاح أو طلاح الإنسان بلون بشرته. الدَّاهِشيّ يُسَلّم بفكرة أن جميع السُّلالات يجب أن تُعامَل بالمساواة. لا يمكن لجماعة أن تُبَرّر استغلالها وسيطرتها على أخرى لمجرد أن لون بشرتها أخف وزناً من غيرها. عندما يقابل داهشيَّاً شخصا ذا لون مختلف فَعَلَيْهِ ألا يُثير في فْكْرِهِ أمْرَ تَفوّق إنسان على آخر؛ فهذا مُنْتهى الحَقارة. الداهِشي يُسَلّم بوجود حُبّ أخوي يشمل شعوب العالَم بأسْره. قد يختلف الرجال والناس في الهيئة الجسديَّة لكن ليس لِأيّ جِنس الحق أن يَسْتَغِل أو يُهَيْمِن على مُعْتَقَد الآخر. إن ما على كل داهِشيّ أن يُسَلّم بِه هو المساواة بين الرجل والمرأة في جميع نواحي الحياة. فما يطبَّق على الرجل يطبَّق على المرأة بالمساواة في أي قانون كان. إنني أجد أمر عدم المساواة بين الجنسين غامض بشكل تامّ. لماذا على امرأة متساوية في الحقوق والواجبات مع الرجل أن تحصل على أجْرٍ متدني كثيراً؟ لماذا على رجل عاد من عمله أن يَحْتسي البيرة ويشاهِد الُتلفاز ويتناول ورقة لقراءتها في حين أن على زوجته التي تتقاضى نفس الأجر أن تقوم بِتحضير الغذاء وغسْل الصُّحون وإيواء الأطفال إلى الفراش؟ لِمَ توجد هذه المعايير المزدوجة عندنا؟ إن الرجال الداهشيون يرون أن النّساء الداهشيات مساويات لهم والعكس صحيح أيضاً.

كل شخص هو في حالةِ تَغَيُّرٍ متواصِل. إن النزاعات اليوميَّة تعمل على إعادة تشكيل سلوكنا وعمليات التَّفكير لَدينا. فَليس إلا من خلال هذه التجارب أننا قادرون على صَقْلِ حواسنا وتجاوز الحالة الراهنة لدينا من الوجود. الحياة مليئة بالتناقضات – نحن منقسمون بين الماديَّة والرُّوحانيَّة، بين ما هو الحق والباطِل. أين نَضَع الخَط الفاصِل؟ تحت أي نِظام عَيش أخْلاقيَّ يُفْتَرَض بِنا أن نَعيش. هل هذا القانون منحوتاً على الحجر؟ كيف ستكون ردَّة فِعْلِ الناس على موقفك حول قضايا معينة؟ إنَّهُ في مواجهة هذه الأسْئلة تكون إستجابة الناس على نحو شَخصِيّ. إنَّ الأمر يَقْتَضي فَهْمَ ضعفاتنا البشريَّة وتنوّعنا.

لن يكون تفاعُل كل داهِشي مُطابِقاً للآخر تحت الشروط نفسها . إن الداهشيّ يتبع القواعِد الأساسيَّة التي تَنصُّ عليها جميع الأديان الكُبرى. ومع ذلك، لا يمكنه/ا  أن يَقِفَ موقفاً أعمى  اتّجاه القوانين التقليدية التي تُعَزّز التَعَصُّب والعنصرية والكراهية والعُنْف. كيف يجب أن نتعامَل مع بَعْضنا البعض؟ يجب أن يكون الداهِشيُّون إنسانيين. يجب أن يشعروا بالتعاطف مع المرضى والفقراء في هذا العالم وتقديم يد العون كلما أمكن ذلك. الداهِشي هو الذي يبكي مع المُعَذَبين ويفرح مع الفرحين.  الدَّاهِشيّون لا يحسدون غيرهم، لأنهم يفهمون أنَّهُم سَيُعطَون كل ما لهم من حيث الثروة، والصحة، والذكاء، والحكمة بنسبة مباشرة حسب ما يستحقون. الداهشيون صادقون عند تعاملهم مع الآخرين، ولا يغمض لهم جفن ليلا إذا كانوا قد ظلموا رَفيقاً.الدَّاهِشيّ لا يَتَرَدَّد عن الصَّفْح، مُمْتَنِعاً عن الغَضَب. الصَّفْح ليس دائماً سهلاً،  ولكن على المدى الطويل هو أسهل بكثير من أن تحْمِل الكراهية في قلبك. الداهِشيَّة ترفض فِكرة العُنْفِ. إن فَرْضَ إرادَتِكَ على الآخرين هو عمل بَرْبَرِيّ وغير إنسانيّ. إنه لِجَميعنا حَق التَّعبير عن أنفسنا بُطِرُق مختَلِفة. لكن اللجوء إلى القوّة الوحشيَّة أمر غير مقبول على الإطلاق.

 

ومن العار والخِزْي عند البشر أن يكونوا غير قادرين على حَلّ خلافاتهم من خلال الحِسّ السَّليم والحِوار. كيف يمكننا أن نواجه أنفسنا عندما نكون قد آذينا غيرنا أو فَرَضْنا إرادتنا عليهم لإثبات وجهة نظر ما؟ لسوء الحَظ إن العُنف يُحيطُ بِنا. أنظر إلى الحروب التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصى التي تخوضها البشرية الآن  وعلى مَرّ العُصور. الاغتيالات السياسية،  والاضطهادات الدينية،  وضَرْب واغتِصاب النساء،  والاعتداء على الأطفال،  وعدد لا يُحْصى من الأعمال الوحشية الأخرى. كيف نتعامل مع الكيانات الحَيَّة الأخرى على الأرض؟ الموارد الطبيعيَّة للداهِشيّ هي من أجل البقاء لا للإساءة إليها. إن الأرض ليست مأوانا فحسب بل مأوى بلايين الكائنات الأخرى التي لا قدرة لها على إيقاف الإستِغلال البشريّ لها. يُدرك الداهِشيُّون أن كِلا من النباتات والحيوانات هي كيانات حيَّة ذات مستويات من الوَعْي. إنهم يعانون مثلنا من الألم والمرض ومن قُوى الطبيعة. عندما نُحْرِقُ الغابات نقتل ملايين من الكائنات الحية. عندما نُلَوّثُ نهر أو مَجْرى  نُسمّم كائنات أُخرى.  الداهشية لديها التعاطف والرحمة لجميع خلق الله، وكذلك الإحترام للأرض الدَّاعِمة لنا حينما نَعيش والتي تحتضن بقاياناعندما نموت. إن طريقة قضائنا على الجهل هي من خلال المعْرِفة. الداهِشيون يُجِدُّون في طلب العِلم ويدرِكون معنى الحاجة لِصَقْلِ رُشْدِهِم.

 

البحث عن المعرفة هو الهدف الأسمى ويُؤدي إلى فهم أفضل لقوانين الطبيعة والإنسانية، و أهمَّها، القيم الروحية.

الداهِشي لا يَدّعي مَعْرِفة كل شيء لأن البشر بعيدون عن، الكَمال.

يتواضُع الداهشيين أكثر وأكثر كُلَّما أصبحوا أكثر دِراية في الأمور الروحانية. ويعتقد الداهشيون في حرية التعبير واحترام وجهات نظر الآخرين، هذا ولو كان الإختلاف صادراً عن أنفُسِهِم.

إذا كنتَ مُتَّفِقاً مع هذه الأفكار فأنت لست بعيداً من أن تكون من الدَّاهِشيين.

نرجو أن لا تَدَعو الإسم يُخيفكم. الداهشية هي رسالة روحية مُوَجَّهة إلى سُكَّان الأرض على أمل أن يتمكنوا من تجاوز التَّحَيُّزات الدينية والعِرْقِيَّة والإثنية، وأن الكثير من مباهِه الحياة إنْ هي إلا أُمور ظاهِرة (سَطْحَيَّة)  لا معنى لها عديمة الفائدة في إغناء النَّفْس.

الداهشية تَدعو لإعادة الإعْمار الدّيني والاجتماعي وتناشد الأفراد لوضع أهمية أكبر على المسائل ذات الأهمية الروحية منها على المادية. على الرغم من أن الأفكار التي أقْتَرَحْتُ تَخْصيصَها هنا يمكن أن توصف بأنها مِثاليَّة، إلَّا أنَّ اعتمادها سيُحدث فَرْقاً حقيقياً في العالم.

الداهشية هي القوة التي نحتاجها لِرَفْعِ وعْيِنا.