انعِتاق روح الدكتور داهِش
إحياء ذِكْرى مُرور 33 عاماً على رَحيلهِ
بِقَلَم مُنير مراد
ترجمة يوسف سلامة
فيما أعيش بين أخوتي البشَر، أتَفَكَّرُ في تَنَوّعهم الجَسَدي والثَّقافي والسُّلوكي والفِكري ، فَضْلاً عن جميع التَّناقُضات المُرْتَبِطَة بِها. أرى التَّطرُّف وجميع الظلال القائمة وسْطها بين الغَنِيّ والفَقير؛ المُعافى والمَريض؛ الشَّاب والمُسِنّ؛ الشَّر والخير؛ السَّخِيّ والبَخيل؛ السَّعيد والحَزين؛ المُتَحَفِّظ والمُتَسامِح؛ الأخْلاقي وغَير الأخلاقي؛ الذَّكي والغَبِي؛ المازِح والصَّارِم. المُتَدَيِّن والمُلْحِد؛ اللطيف والقاسي؛ الكريم والمُسيء… إنَّ تَأمُلي يقودني إلى سُؤال أساسِيّ وهو: ماذا يَعْني كُلّ ذلك؟
للدَّاهِشِيين هُناك إجابَة واحِدة فقط: أن نكون واحِد مع الخالِق. قد يتساءل المَرْء، كيف يمكن للتَّنَوُّع البَشَرِي مع جميع التَّناقُضات أن يُؤدّي إلى أن نكون واحِداً مع الخالِق؟ إنَّهُ وِفْقاً للإيديولوجيَّة الدَّاهِشِيَّة، فإنَّ الكَون بِأكمَلِهِ مُكَوَّنٌ مِن مِئة وخمسين درك جحيميّ، و مِئة وخمسين دَرَجة نَعيميَّة عُلْوِيَّة. يتكوَّن كل مُسْتَوى منها مِن عَدد لا يُحْصى من بيئات قابِلة أن تُشَكّل حياة، وهو أمْرٌ مُماثِلٌ لِجميع الكيانات الحَيَّة على كوكب الأرْض. ويمثّل الحدّ الأقْصى من كُلّ طَرَف القُرْب الشَّديد من مجد الله تعالى أو البُعْد عَنْهُ. أمَّا ما يَقع بين هذين (الحَدّيْن) فَيُعَدُّ درجات مُتفاوِتة عَنْها. يَقَع عالَمنا على عَتبة الدَّركات الجحيمِيَّة، وهو أيضاً على عَتبة درجات النَّعيم في نَفْس الوقت. إنَّ كُلّ ما يَحْدُث لَنا مِن خير وشَر في اختباراتنا الحياتِيَّة لَهو مُرْتَبِط ارْتِباطاً مباشراً بِسلوكنا في حياتنا الحاليَّة أو السَّابِقة. وفي كُلِّ “مَرْحَلَة” من وجودنا، تُمْلِي إرادتنا الحُرَّة وسلوكنا مَدى الدَرجة العُلْوِيَّة التي سَنكون فيها في عوالم النَّعيم أو دَرَجة الإنحطاط في عوالِم الجحيم. لَقد اقْتَضَت رحمة الله تعالى أن تَمدَّنا بالهُداة الرُّوحِيين والأنبياء وذلك لإنارة سبيلنا ومَنْحِنا الخلاص.
بِما أنَّ وجودنا في هذه الحياة يَرْتَبِطُ ارْتِباطاً مُباشِراً بِسلوكنا السَّابِق، فهذا يقود إلى حقيقة أنَّا مُكلّفون (مَسْؤولون) بِسَبب وجودنا. الإستثناءات الوحيدة هي الأنبياء والهُداة. برغم أنه لم يكن لدينا الخيار في أن نكون في هذه الحياة، إلا أنَّ نبيَّنا الحبيب الهادي كان لديه الخيار وكان قد اخْتار أن يَنْزل إلى الأرْض للعَيْشِ بيننا من أجل أن يَكْشف لنا الحقائق الرُّوحِيَّة ولِكَي يَفْتَدينا من خِلال مُعاناتِهِ كإنسان- أي بِنَفس الطَّريقة التي فَعَلَها قبل ألْفَيّ عام عندما اختار أنْ يولَدَ كَسَيّدنا، يسوع المسيح.
في 9 إبريل 1984 ، غادرنا النَّبيّ الحبيب الهادي بَعْدَ وَضْعِ أُسُسِ الدَّاهِشِيَّة. بالنّسْبة لأتباعِهِ يُعْتَبَر رحيله ذِكرى سَنَوِيَّة مُرَّة حُلوة. فَمِنْ ناحِيَةٍ، مِنَ المُحْزِنِ ألّا يكون بيننا. ومن ناحِيةٍ اُخْرى، هو تَذْكيرٌ بهيج عن انعِتاق نفسهِ من سِجْنِ الجَسَد البَشَري. في عام 1970 كَتَب قصيدة نَثْرِيَّة بِعنوان “يا نَفْسي القَلِقَة”، ومن المُناسِب أن تُقَدَّم إلى القارِئ في الذِّكْرى الثالِثة والثَّلاثين على انْتِقالِهِ.
يا نَفْسي القَلِقة!
أيَّتُها النَّفْس الحَيْرى!
يا مَنْ أرْهَقَتْكِ أوزار هذه الكُرةِ الأرْضِيَّة!
يا مَنْ أرْهَقَتْكِ متاعِبُ هذه الفانِيَةِ!
أيَّتها السَّجينة في هذا الجَسَد المادِيّ الحَقير!
يا مَنْ تريدين الإنْطِلاق فَتُكَبّلُكِ المادَّة بِكُبولِها المَمْقوتَةِ!
أيَّتها التَّوَّاقةُ إلى للإنعِتاق، الرَّاغِبة بالتَّحْليق نحو العَلاءِ!
يا مَنْ تُنْشِدينَ عالَماً غير عالَمكِ المادِيّ هذا!
أيَّتها النَّفْثة القُدْسِيَّة والنَّفْخة العُلوِيَّة!
لقد حُكِم عليكِ أن تنزَوي في جَسَدٍ مادّيّ أرْضِي، لأمَدٍ قصيرٍ،
وَمِنْ خِلالهِ تَنْظُرين- والألم يُمْعِنُ فِيكِ تَعْذيباً- ما يُرْتَكَب في هذا الكوكَبِ من شرورٍ هائلَة، وآثامٍ مُرْعِبَة، تُشاهِدينها فَتَتَمَنّين لَو لَم تَهْبِطي إلى عالَمِ الأضاليل المُدَنَّسَةِ.
تُحاولين هِداية النَّاس، والنَّاس قد انْدَمجوا بالشُّرورِ، وتَمَنْطَقوا بالآثام، ونَطَقوا بِأفْحَشِ الكلام.
أفْرادٌ أيَّتُها النَّفْس، يُعَدُّونَ على الأصابِع، فَهِموا الحقيقة، وتَبِعوها، ولكن بِمِقْدارٍ أيضاً.
وما دام الإنسان أيَّامهُ مَعْدودة، ولياليه سَتَتَصَرَّم حِبالها، فَلِماذا لا يَرْتَفِعُ بِروحِهِ نحْوَ الأعالي، لِيُكافَأ، على احْتِقارِهِ مُغْرَيات الحياة، بِفَراديس غَنَّاء، تَمْضي آلاف من الأعوام وهو راتِعٌ بِسعادة بَشَرِيَّة لا يُمْكن لِقَلَم بَشَرِيّ أن يَصِفها، لِعَظيم ما تحْتَويهِ مِنْ لذاذاتٍ روحِيَّة ومُتَعٍ إلهِيَّة.
إنَّ جميع مُغريات هذه الحياة لا تَسْتَطيع إدْخال الفَرَحِ إلى نَفْسي، أو تَدعني أشْعُر بِسعادة وَهْمِيَّة، سُرْعان ما يَبْترها سيف الموت الرَّهيف الرَّهيب.
ويومَ تنطَفِئ شُعْلَة حياتي،
ويوم يدعوني إليهِ داعي الموت ويَبْسط ذِراعَيه لِيَضُمُّني إليْهِ،
ويوم تتوارَى عن عَيْنَيّ مَرْئيَّات هذه الأرْض المُفْعَمَة بالآثامِ الهائِلة،
يومَذاك أشْعُر بالسَّعادة الحقيقيَّة،
وَأتَذَوَّق لَذَّة العوالِم العُلْوِيَّة،
وأحْيا هُناكَ في تِلْكَ الرُّبوع السِّحْرِيَّة، الحافِلَةُ بِمُتَعِ لَم تُشاهِد مِثلها العُيون، أو تَسْمَع بِها الأذان!
يومَذاك تَكمل أفراحي وتتمُّ مَسَرَّاتي الرُّوحِيَّة.
فَمَتى أنْطَلِقُ مِنْ ربوع الأسْرِ إلى فَضاء الحُرِيَّة؟ مَتى ؟!
فُنْدُق شارتون بالكويت، والسَّاعَة 9:30 ليلاً، 27/6/1970